مصرُ إذْ تخنق غزة
محمد هنيد
أنْ يصرّح لسان الدفاع عن جرائم الكيان الصهيوني أمام “محكمة العدل الدولية” بالقول إنّ من يغلق معبر رفح أمام المساعدات من غذاء ودواء وماء هو الجانب المصري فذلك تصريح خطير. حاول الجانب المصري التنصل من الجريمة لكنّ كل المؤشرات تؤكد على تورط مصر في خنق غزة وفي المشاركة الفعلية في حصارها بشكل لم يسبق أن عرفه تاريخ المواجهة بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال.
هذا ما خرج فقط في العلن، لكن التنسيق يبقى قويا بين القيادة المصرية والصهيونية أمنيا واستخباراتيا واقتصاديا من أجل تحقيق هدف مشترك يتمثل في القضاء على المقاومة المسلحة وإلحاقها بالسلطة في الضفة وتحويلها إلى كيان جديد للتنسيق الأمني مع الاحتلال.
ماذا تستفيد مصر من خنق غزة؟ وما هي أسباب التحول الكبير في الموقف المصري؟ وما تأثيره على غزة وعلى المقاومة؟ وما هي تبعات هذا الموقف على صورة مصر ودورها عربيا وإقليميا؟
مصر تحاصر غزة
مرّت أكثر من مائة يوم على حرب الإبادة التي تشنها جحافل الجيش الصهيوني وقوات شمال الأطلسي وجحافل المرتزقة من كل أصقاع الأرض ضد غزة وشعب غزة وحركة المقاومة فيها. لا يتعلق الأمر هنا بحركة حماس لأن الإبادة لا تقتصر على عناصر الحركة بل تشمل كل مظاهر الحياة في القطاع وهو ما يفسره عدد الأطفال الذي تجاوز العشرة آلاف طفل سقطوا بقصف المحتل.
توحش الاحتلال فعلٌ متوقع لمن قرأ تاريخ المجازر الصهيونية وهو اليوم أشد منه بالأمس إذْ يخوض الكيان آخر معارك وجوده على أرض فلسطين. لكنّ الصادم هو التحوّل الكبير في الموقف المصري من المذبحة المفتوحة في غزة حيث رفضت مصر حتى السماح للجرحى والمصابين والحالات المستعجلة بالدخول عبر معبر رفح للعلاج.
تعفنت المساعدات الغذائية على الحدود مع القطاع من الجانب المصري ولم تصل إلى آلاف الجوعى والمحتاجين المحاصرين تحت القصف وركام المباني. صادرت مصر باعتراف مسؤوليها سيارات الإسعاف الكويتية المجهزة وبيعت المساعدات في الأسواق المصرية وفرضت ضريبة بآلاف الدولارات على عبور الجرحى والمصابين. لم يعد أحد ينتظر من مصر التدخل لوقف المذبحة بل صار أوكد المطالب السماح لأهل غزة المصابين بعبور المعبر للعلاج والسماح بدخول آلاف الشاحنات من المساعدات وهو ما ترفضه مصر إلى اليوم.
لا شك في أن حصار غزة وخنقها ترتيب أمني متفق عليه بين مصر ودولة الاحتلال التي كشفت أن سلطات مصر أحرص منها على خنق غزة وإنهاء المقاومة فيها ومنعها من تحقيق نصر تاريخي على الجيش الذي لا يقهر.
غزة تحاصر مصر
في الحقيقة عجزت مصر طوال تاريخ تنسيقها الأمني مع الاحتلال على ضرب المقاومة واجتثاثها رغم كل الجهود التي قدمتها خدمة للمحتل من خلال إغراق الأنفاق بين الرفح المصرية ورفح الفلسطينية. أقامت مصر جدارا عازلا يمنع مرور أهل غزة وأطلق جنودها النار على المتسللين عبر الجدار واعتقلت المقاومين الفلسطينيين وأمدّت الجانب الصهيوني بكل المعلومات الأمنية عن تنقلاتهم عبر مصر أو داخلها، لكنها لم تنجح في كسر شوكة المقاومة.
يَعتبر النظام العسكري الحاكم في مصر، غزةَ تهديدا مباشرا له لأنها النقيض الواقعي لاتفاقية كامب دافيد التي وقعتها مع المحتل وتحولت بموجبها مصر من حالة الحرب مع المحتل إلى دولة مطبعة معه. وهو نفس المنوال الذي سارت عليه أغلب الدول العربية سرا أو علنا من خلال مشاريع التطبيع التي ظهرت إلى الجماهير في السنوات الأخيرة وخاصة في دول الخليج. داخل هذا النسق تندرج سلطة رام الله المعترف بها دوليا ممثلا لشعب فلسطين والتي تحوّلت بدورها إلى قوة حارسة للمحتل وذراع ضاربة من أذرعه الأمنية المسلحة.
هنا يظهر “نشاز المقاومة” بين جوقة المطبعين والمنسقين تحت غطاء الوسطية والسلام وحوار الأديان والشرق الأوسط الجديد ونبذ العنف والحرب على الإرهاب ومقاومة التطرّف. كلها تسميات براقة صاغتها أذرع النظام الرسمي العربي المشارك في المذبحة من أجل تبرير التطبيع ومحاربة المقاومة ومنع تحرير الأرض.
المقاومة في غزة هي آخر مناطق الفعل العربي في وجه الاحتلال وهي تتناقض كليا مع مسار النظام العربي المطبع مع الاحتلال لأنها لا تعترف به وتعمل على إسقاطه. هذا التوجه هو الذي يؤرق الأنظمة العربية ويُربك منطقها القائم على القبول بالاحتلال وفرض التطبيع على شعوبها لأنه شرط من شروط بقائها في السلطة.
هكذا تكون غزة في موقع المحاصِر لهذه الأنظمة لأنها تعتمد منطقا مناقضا لمنطقها يقوم على المواجهة المسلحة مع الاحتلال وأعوانه، وهو ما يفسر التحالف السري والعلني بين السلطة العربية وجيش الاحتلال.
الرابحون والخاسرون من الحصار
عسكريا تكبدت غزة خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات لكنها حققت أعظم انتصارات العرب التاريخية في وجه تحالف دولي ضخم ضم أعتى جيوش العالم وعلى رأسها القوة الأمريكية بصواريخها وغواصاتها وبواخرها الحربية.
من جهة مقابلة، كشفت المذابح عن حقيقة الجيوش العربية وعلى رأسها الجيش المصري الذي صار حارسا نشطا لمستوطنات الاحتلال ومشاركا فاعلا في خنق المقاومة. هذه الصورة الناصعة للدور المصري في مجزرة غزة الأخيرة ستقضي على آخر الآمال المعلّقة على الجيوش العربية في نُصرة المقاومة ودعم تحرير فلسطين.
إن السلطة القائمة على الانقلابات الدامية ضد إرادة شعبها لا يمكنها أن تكون إلا معادية لكل حركات التحرر ولكل فعل مقاوم للاحتلال. لن تسمح الجيوش العربية لغزة بتحقيق نصر على المحتل لأنها هي نفسها قد فشلت في تحقيق ذلك من جهة ولأنّ نجاح المقاومة سيغري الشعوب الواقعة تحت احتلال مماثل بالثورة ضد مستبديها.
إن تحالف الاحتلال الصهيوني والاستبداد العربي في مذبحة غزة اليوم يشكل دفعة كبيرة للوعي العربي بتكامل المشروعين وبأن بقاء المستبد هو شرط بقاء المحتل ولا حياة لأحدهما دون الآخر. مواجهات غزة الأخيرة لم تسقط القناع عن توحش الاحتلال ولا عن تواطؤ الاستبداد فحسب، بل إنها أوضحت للشارع العربي أن تحرير الأرض والإنسان لا يكون إلا عبر إسقاط المشروعين معا. كما أنها أكدت على أنّ الطريق إلى النصر لا يكون إلا من خلال الوعي بأن النظام الإقليمي العربي جزء من الاحتلال إن لم يكن أخطر مكوّناته.
عربي21