نور الدين الغيلوفي
وجه خفيّ يمثّله أبطال السلاح في الميدان، بطولتهم في اختفائهم، ومنه قهروا العدوّ من أوّل يوم زحفِهم عليه يوم السابع من شهر أكتوبر سنة 2023 كما لم يتوقّع يومًا.. اختفوا حتّى ظهروا وظهروا حتّى خَفُوا عن عين العدوّ ومرّوا من أمامه كأنّ من بين أيديه سدّا ومن خلفه سدّا.. فجندلوا من جنده وأسروا، وعادوا إلى أنفاقهم ليكون بدءُ الملحمة الطوفان.
والعدوّ كلّما أثخن فيه هؤلاء الأبطال لجأ إلى وجه البطولة الثاني وهو شعب المدنيين الآمنين من أطفال ونساء وشيوخ ورجال بلا أسلحة.. شعب العزّل هؤلاء هم ملجأ جيش العدوّ المدجّج بالسلاح يجرّب فيهم بطولته التي خانته في ميدان الحرب.. يهرب من الحرب إليهم كما يفعل جيشٌ جبانٌ تقهره الأسلحة فيُعملها في صدور من لا سلاح لهم.
معاناة غزة
- تعبنا،
قالت سيدة تتناسل هجرات لجوئها ويسيل الأسى من وجهها،
كلّما حللنا بمكان من قطاع غزّة نحسبه آمنا وتدفّأ بعضنا بأنفاس بعض وظننّا أنّنا قد استرحنا من الهجرات هجموا علينا مثل وحوش انطلقت من حظيرتها.. فأخرجونا من ملجئنا لنستأنف المهجرَ كأنْ لا مكان يستقرّ بنا.. كلّ المكان صار نابيا بنا. تعبنا..
والنساء من حولها، والأطفال يمضغون قهرا يأتيهم، مثل ريح صرصر عاتيه، من كلّ النواحي.. يأتيهم في شتاء طويل عليهم من عدوّ ومن قريب.تعبنا.. جوعًا ومرضًا وعراءً..
تعبنا يُتمًا وثُكلًا وترمُّلًا..
تعبنا من لا شيء ننتظره واللا شيء لا يُنتَظَر ولا يأتي.
الديار تهدّمت والرغيف انقطع والمياه نضبت.. الأمراض استشرت ولا دواء يخفّف وجعًا.. حتّى المدامع ما عدنا نملك نسفَحُها.. وغادَرَنا التعلّلُ بالآمال وتركتنا (لعلّ) وضاعت معها راحة يعقبها دمع.. من يوم اكتشاف لغات المدامع.
كل المآسي هنا اجتمعت وكلّ الأحزان وجدت لها فينا ختاما لمستقَرِّها..
- تعبنا من الاحتلال وتعبنا من الأمل وأرهقَنا الرجاءُ، ولا رجاء.
- تعبنا من نسبتنا إلى البشر.. لو كنّا من مجتمع الوحش لربما وجدنا لنا ظلّا نأوي إليه أو واديا يجرفنا ماؤه إلى حيث الخلاص أو الموت.. أو ربّما كان لنا من بين الوحش أهلون.
الموت ذاته لم يرحمنا عندما تجنّبَنا واختار هؤلاء الشهداءَ الذين قضوا نحبهم وارتقوا ليضع العناء حدّا لمطارتهم.. ارتقى الشهداء وبقينا نحن في مهبَطٍ من أرض بشر أنكروا نسبتنا إلى البشر.. وإلى أرضنا التي نبتنا فيها وغرسنا بها الزيتون.. والبرتقال الحزين.. اقتلع العدوُّ كلّ شيء وبقينا نحن يجرّب فينا خبرات التنكيل ويعلّم جندُه المباشرون شعبَ الاحتياط منهم كيف التطهير العرقيّ.
- تعبنا من الظلم حتّى تعب منّا التعبُ
- تعبنا من أذى لم يعد لأحد منّا منه منأًى،
- تعبنا، وخلت الأرض من كلّ ملجأ لنا واختفى كلّ نصير.
- تعبنا ولم يعد لنا مَن نذكره غير الله،
والله يرى من الأمر ما لا نرى..
فنحن نتعدّى إليه
بلعلّ
وعسى.
ونقنع من حكمه
بالرضا
منه نرقب الآمال
نعقدها.
والوجع فينا مقيم
والأمل في الناس عقيم.