مرّة أخرى إشاعة عن وفاة الشيخ راشد الغنوشي في محبسه!
نصر الدين السويلمي
ذلك هو راشد الغنوشي.. حتى في التّعامل مع إشاعات وفاته، سيختلف النّاس من داخل الدائرة التي تبجّل الرّجل وتعرف له فضله وسبقه، منهم من يفزع محبة في الغنوشي، ومنهم من يستبشر محبّة في “الشّهيد”، منهم صلة أرحام تهمّها أنفاس الغنوشي وإن كان طيفا، ومنهم صلة مشروع تبحث عن لقب جديد للحركة الإسلاميّة في تونس كتلك الألقاب التي حازتها الحركة المصريّة في العام 1949، وفي العام 1966، وفي العام 2017، وفي العام 2019 “البنّا/قطب/عاكف/مرسي”، وكذا الحركة في فلسطين وبعض الحركات في أقطار إسلاميّة أخرى.
في كلّ الحالات لا يتمنّى أبناء الحركة الإسلاميّة في تونس لرمزهم المؤسّس أن تكون نهايته باردة عاطلة بلا إنتاج، فليس ذلك ديدن الرّموز، فقد مات البنّا برصاصهم، ومات سيّد بحبالهم، ومات ياسين بطائراتهم، ومات مرسي في سجونهم، حتى السّنّ لم يقعد الرّموز، فذاك محمّد مهدي عاكف سجين كلّ العصور لم يرحل قبل أن يتقلّب في سجون الظلمة على اختلاف طبقاتهم، كان الشّيخ القديم في عمر 89 سنة مثقل بأربعة أمراض مزمنة، رغم ذلك ظلّ إلى آخر رمق يجاهد بالكلمة، حتى حين عزلوه عن بقيّة المساجين كان يستغلّ فرصة الالتقاء بالحرّاس ليعظهم، حتى كان بعضهم يضع إصبعه في أذنيه خوفا من اتهامه بالاستماع إلى مواعظ الشّيخ مهدي عاكف.
لم يعد يهمّ الغنوشي كثيرا ماذا سيفعل به خصومه، لأنّه في منعرج لم تعد تهمّه الكدمات بل تهمّه النّهايات.
ليس الغنوشي ذلك الرّجل الذي قدم إلى ساحات الدّعوة والفكر والسياسة والفعل في خريف عمر، فهو يبحث عن كلّ دقيقة إضافيّة يعوّض فيها ما فات، لقد بكّر الغنوشي ووهبها رحيق عمره، دخل قصورها ومرّ بجانب قبورها، حوكم بشهر في بداية رحلته، وحوكم بالمؤبّد في منتصف عمره، وسجن بلا محاكمة في خريف عمره، جلس مع كعبورة في برج الرّومي يناقشه في دوافع جريمته وإمكانيّة توبته، ثمّ جلس في كوالالمبور مع مهاتير محمّد يناقشه في أهمّ ركائز النّهضة الماليزيّة.
دعونا من إشاعات الموت الذي سيأتيه وقد يأتينا قبله، فقط وصيّة إلى الذين سيشيّعون الشّيخ حين يترجّل، قد لا نشهد تلك اللحظة فالأعمار بيد الله، نوصيكم أن تثمّنوا دموع خصومه الشّرفاء إذا جاؤوكم لتوديع خصم شريف يغادر، أمّا الذين ضاقوا بعمره واستعجلوا أمره ومضغوا لحمه وتكلّموا في ظهره، وأفشوا سرّه وطعنوا في أمره، ونسّقوا لإسقاطه وهرسلته.. فلا تدخلوهم بيت العزاء، احشوا أمعاءهم باللحم والكسكسي ثمّ اصرفوهم، لأنّ الذي قطع معك الأشواط الطّويلة في ركاب الدّعوة والمحنة، ثمّ انتهيت وليمة في فمه، يلوكك من على منابر أعداء الحريّة والهويّة، لا يستقيم أن يقف على جثمانك في لحظة تتطلّب الصّدق.. كلّ الصّدق.