كمال الشارني
فجأة، تعلن الدولة التونسية عن مشروع لإحياء الخط الحديدي الأسطوري عدد 6 الرابط بين تونس والقصرين بدل طريق الهطاية،
نحن كائنات من ذكريات وحنين: وأنا صغير، كانت امرأة من الهطاية تغني في أعراس الكاف (فريقة) وقلبي يذوب معها: “يا تران القلعة (الجرداء)، جاب الفسفاط من تلابت، يمه من تلابت، نايا صغيرة والقصة شابت”، وأنا من أين أعرف تلابت؟
لكني كنت أعالج روحي الحزينة بتأثيث ما ينقصني من القصة بالخيال: امرأة وحيدة في العشرين من العمر بوجه طفولي مستدير بعينين كبيرتين وفم دقيق، تفرق شعرها الأسود في الوسط وفيه خصلة بيضاء من الحزن والوحش، تزوجت في غير أهلها، تغني للقطار العابر للجبال والفيافي لوعة الشوق نحو الأهل البعيدين وذكريات الطفولة والانتماء والمكان ربما الندم على زواج الحب، “يا تران القلعة، استنى نكتب على جنبك، يمه على جنبك، يا خالي اش صبر قلبك؟”، تغني للثعبان الميكانيكي الجبار يتلوى بين التلال الجرداء يجر حاويات لا تنتهي وتزحف على السكة حاملة ذلك التراب الرمادي الغامض: الفسفاط، وهو شيء لا يؤكل ولا نعرف له استعمالا وقتها،
تلابت أو Thélepte هي بقايا مدينة رومانية مليئة بالوحش والقلق جنوب مدينة القصرين وقبل فريانة وتوحي لك بأنها نهاية العالم، وقد زرتها مرتين فقط بحثا عن المرأة التي تغني للقطار في أغنيتي لكني لم أعثر سوى على بقايا السكة المهجورة، وجدت أحدهم في مقهى يستمع إلى أغنية “وحش السرى وبرودة” والسرى هي سرى ورتان في الدهماني، حيث واعد العاشق حبيبته في تل صخري بارد بعيدا عن العيون حتى يشرف على جبل قمودة، بلاد الهمامة سادة الحصاد في فريقة هي كلها قصص مرتبطة ببعضها في قلب الهطاية، أيه؟ والقطار؟
القطار اختفى منذ عقود، الأصل أن الثروة تذهب حيث يذهب القطار وحيث يضمن الناس الحد الأدنى وهو النقل وربط الناس ببعضهم وعندما تسحب سكته تنسحب معه الثروة وقدرة الناس على التخطيط للمستقبل وتعديل ساعاتهم على مواقيته، هكذا جاء غرباء إلى فيافي غرب البلاد واقتلعوا السكك من تلابت حتى طبرقة مرورا بدشرة نبر، فلم يعد للأغاني معنى ولا حتى الحنين،
زعمة، “عمي الراجل” يرجعوا السكة وترجع عاشقة أو أم متوجعة لتأمل الوحش الميكانيكي تغني للراحلين هربا من البلاد؟ على الأقل أغنية توثق لذلك الوحش الغريب الذي في غرب البلاد؟