شروط التمام بمنظور القرآن لتدعيم الفتوى السعودية الداحضة للإبراهيمية
أبو يعرب المرزوقي
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ آل عمران/ 19. قرأت أمس نصا نشره زميل محترم علمت بمقتضاه بفتوى صدرت عن مؤسسة سعودية عتيدة تصدر فتاواها في المسائل العقدية وتوصف بالسلفية الغالية.
ولما كنت اعتبر فتواها في مثل هذه الحالات التي تعدل من الغلو الإلحادي المحارب للإسلام أمرا ضروريا حتى لا يزيف القرآن الكريم خاصة ومشروع الإبراهيمية ليس جديدا لأن أول من وضعه بشكله المحقر من الإسلام كان ماسينيون خلال تدريسه الفكر الإسلامي في مصر.
فقد أسس جمعية في مصر كلف بها بعض مسيحييها بما سماه اخراج انباء اسماعيل مما يعتبره لعنة رمي ابيهم وامهم في الصحراء وسمى ما هم عليه بالجذام الإسلامي بالقياس إلى اليهودية والمسيحية. وقد أردت بهذه المحاولة أن ادلي بدلوي من منظور منطقي إذا انطلقنا من المسلمات القرآنية في المسألة حول مسألتين جوهريتين.
ورغم أني لست مفتيا ورافضا لمؤسسة الإفتاء في الإسلام لأني اعدها كنسية مقنعة لتحولها إلى تنصل الفرد من فروض العين والاتكاء على الإفتاء وتحولها إلى وساطة بين المؤمن وربه. والمسألتان هما:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ – آل عمران/ 19
الأولى هي سوء فهم الدين في عبارة “عند الله” في وصف الإسلام. لأنها تعني أمرين: فالقصد الدين التام هو الإسلام ليس في واقعه بل في واجبه اعني عند تمام شروطه التي تعتبر من غيب السرائر التي قد لا تطابق الإسلام الرسمي.
فالإسلام من حيث هو أحد الأديان في واقع تاريخ الأديان غير الإسلام في واجبه عند الله عندما يصبح البصر حديدا يوم الدين. ولولا ذلك لما جعل القرآن التعدد الديني غاية السعي الحر لتبين الرشد من الغي والإيمان الذي لا إكراه فيه (البقرة 256) خلال التسابق في الخيرات (المائدة 48) ليكون المؤمن قد اختار الدين الأتم حتى بين الأديان في واقعها التاريخي.
ولولا هذا التمييز المؤسس لشرط السعي الحر للإيمان لكان التعدد الديني في عالم الشهادة محرما ولرفض القرآن آل الكتاب ومعاملتهم معاملة خاصة تجعلهم في ذمته يحافظ عليهم ويرشدهم بمنطق التصديق والهيمنة إلى ما يحررهم من التحريف ويساعدهم في تبين الرشد من الغي.
فتكون نسبتهم إلى الإسلام في واقع الأديان التاريخية هي عين نسبة المسلمين إلى المثال الأعلى في صدق الإيمان أي تبين الرشد من الغي المؤدي إلى الكفر بالطاغوت ليكون الإيمان عبادة خالصة وإيمان بالدين الاتم أي الإسلام ليس الشكلي بل المحقق في المعاملات لما يطابق العبادات وذلك هو برهان الأهلية للاستخلاف: المعيار هو السلوك المحقق لقيم القرآن في عالم الشهادة الذي هو محل الامتحان.
ولولا ذلك لما كان الرسول الخاتم قد خير أهل الكتاب بين الاحتكام لكتابهم أو إليه لما احتكموا إليه. بمعنى أنه لم يفرض عليهم الاحتكام للإسلام لأن ذلك يتنافى مع شرط التسابق في الخيرات (المائدة 48).
وذلك قول القرآن الذي ختم بالقبول بالتعدد كأمر واقع شرطا في السعي الحي والحر فرض عين على كل إنسان من خلال المقارنة والمفاضلة بين الأشكال الواقعة من الرؤى الدينية والسعي إلى المثال عندما يتبين الرشد من الغي.
لذلك فلا معنى لحجة نسخ الأديان المنزلة السابقة على القرآن نسخا كليا لأن المنسوخ منها هو تحريف الدين الواحد الذي يمثله الإسلام عند من تبين الرشد من الغي. ما هو منسوخ من أديان الكتاب هو تحريف الكتاب وليس الكتاب.
ولولا هذا الفرق لما كان لانشغال القرآن بتخليصها من التحريف بمنطق التصديق والهيمنة: هذا المنطق هدفه النسخ الجزئي وليس الكلي وتقديم البديل لأن من شروط النسخ في القرآن هو ملازمة الناسخ البديل للمنسوخ المبدل منه. فالهيمنة تبقي على التصديق ومن ثم فهي لا تنسخ إلا ما فيها من تحريف:
والتحريف المنسوخ في اليهودية هو الظن بأن الرب ربهم وحدهم وبأن غيرهم لا رب لهم ومن ثم فهم يعتبرون بقية البشر عبيد عندهم -جوهيم- مع بعض الانحرافات في شريعتهم وهما مشتركان بينهم وبين التشيع لأن ما يعدهم اليهود جوهيم يعتبره الشيعي ناصبيا لا يكفي استعباده بل يجب سفك دمه.
وتحريف المسيحية هو التثليث ونسبة المسيح إلى البنوة الإلهية مع بعض الانحرافات في شريعتهم وخاصة في مسألة الوساطة الروحية (الكنسية) والوصاية المادية (الحكم بالحق الإلهي) وهما مشتركان بينهم وبين التشيع.
ومعنى ذلك أن كل ما فيها مما يتطابق مع الإسلام -كون كتابها منزلا على رسل حقيقيين- ليس منسوخا وإلا لمنعتها في دولة الإسلام كما منعت الإلحاد والكفر: اعتبار أهلهما من أهل الذمة الدولة الإسلامية تعني محافظتهم على حق ممارسة عباداتهم وحمايتهم من كل عدوان عليهم حتى إن تعليل الجهاد بهذه الحماية بدأ بالدينين المنزلة قبل الإسلام.
وإذن فالنسخ ليس مطلقا والمبدأ الأعم في كل نسخ أنه لا يوجد من دون بديله في القرآن وهذا النسخ الجزئي أحد أنواعه. وهو ضروري حفظا لشرط طلب الرشد من الغي وتيسيره لأهل الكتاب في التسابق في الخيرات.
وبهذا المعنى فإن القرآن قد وضع شرط الإيمان بالله واليوم الأخر والعمل الصالح وهو المشترك الذي إذا توفر في الدينين المنزلين الآخرين يصبحان موعودين بلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وبهذا المعنى فالفتوى على أهميتها اعتبرها قد أفسدت الموقف الإسلامي من التعدد الديني في واقعه خلطا بينه وبين واجبه إذ حتى المسلم في واقع تدينه ليس واثقا من أنه على الإسلام في واجبه.
إذ قد نكتشف أن الكثير ممن يتصورون أنفسهم مسلمين لعلهم بسبب النفاق والتقية أقل إيمانا ممن يظنون كفارا. ولذلك فالفتوى ناقصة وضارة بأهم قيم القرآن أعني التمييز بين واقع الدين وواجبه وبين الدين الموروث والدين الذي يصل إليه المؤمن بمسعاه لتبين الرشد من الغي فرض عين أي حرية المعتقد الذي لا إكراه فيه. ولهذا النقص وجهان:
- الأول هو أن القرآن لا يعد إبراهيم يهوديا ولا مسيحيا ومن ثم المصطلح نفسه يكذب القرآن لظنه أن نسبة الإسلام إليه جنيس نسبة اليهودية والمسيحية إليه. فالمشترك بين الإسلام ودين إبراهيم هو الحنيفية وليس اليهودية ولا المسيحية لأنه لم يكن منتسبا إلى أي من هذين الدينين وهما نشآ بعده.
- الثاني هو كونها فتوى تتجاهل رؤية القرآن للوصول الحر فرض عين على الإنسان بمعنى أن الإيمان ثمرة مسعى ذاتي طلبا للحقيقة أو ما يسميه القرآن تبين الرشد من الغي ولا يكفي فيه الانتساب الوراثي أو الإسلام الرسمي:
فهو ليس مثل الانتساب إلى وطن بشهادة الميلاد بل هو انتساب إلى عالم الروح بالميلاد الروحي الذي هو تبين الرشد من الغي وعلامته الكفر بالطاغوت والإيمان بالإله الواحد رب كل المخلوقات.
فالوصول إلى الإسلام الذي هو الدين الوحيد عند الله يحصل في غاية هذا السعي وبفضله وليس بالوراثة التي قد تكون البداية في الإسلام الوراثي أو في عدمه الوراثي فالإسلام يميز الدين الواجب والتام والدين الممكن والناقص في مسار تبين الرشد من الغي.
الغاية هي تبين الرشد من الغي الذي هو الوصول إلى الدين الذي علامة إدراكه هي الكفر بالطاغوت لإخلاص الإيمان بالله. فذلك شرط كون من يتبين الرشد من الغي يؤمن بالله الواحد الأحد ورب جميع المخلوقات لا شريك له.
فيكون الكتابان الآخران قابلين لأن يعدا مرحلة السعي لتبين الرشد من الغي خلال التسابق في الخيرات الذي يوفره التعدد في واقع الأمر شرطا في الوصول إلى الوحدة في غايتها بفضل تدبر معنى المنهج القرآن في استعمال منطق “التصديق والهيمنة” فيتحرر اليهودي والمسيحي في الأديان المنزلة وغيرهما في الأديان الطبيعية من الموروث للوصول إلى تبين الرشد من الغي خلال التسابق في الخيرات (المائدة 48).
وحينها يكون الدين الذي لا اكراه فيه هو غاية نقد التحريف في كل الأديان ليحصل المعنى الأتم للإيمان بالقرآن والرسالة الخاتمة. وذلك هو معنى النسخ الذي هو دائما مشروط بالبديل الأفضل منه. ولا وجود لنسخ خال من البديل الذي يكون على الأقل مثل المبدل منه وهو في الغالب أفضل منه.
وهذا الكلام ليس من الإفتاء في شيء أولا لأني لست مفتيا ورافض لمؤسسات الإفتاء لأنها وساطة وثانيا لأن كلامي مؤسس على مقدمات صريحة وردت في القرآن عند من يؤمن بأنه لا يأتيه الباطل. والله ورسوله أعلم وأصدق.