لي من الذكريات ما يغنيني عن الأمنيات لهذا العام الجديد
توفيق رمضان
هل علي أن أكتب شيئا في نهاية هذا العام.. ثم من أنا لا كتب أو أقول.. لست إلا أعرابيا في اقصى المدينة، كلامه وصمته سواء…
عام أراه يرتّب أغراضه ويحزم حقائبه.. يطوي قمصانه وسراويله المرقّعة، يضع جواربه المثقوبة في بعضها… يدس فرشاة أسنانه التي أصبحت كمنكسة.. قوارير عطره الفارغة يدخلها عنوة في الحقيبة…
أخفيت عنه بعض الصور التي كانت معلقة على جدران الذاكرة… قلت خذ معك ما شئت، إلا الصور والذكريات وروائح الغائبين، بها أحيى وأقاوم وأستمر في الوجود رغم كل المحن والآلام والخيبات… متى أوجعتني الحياة ألقي بدلوي في الذاكرة لأغترف ما به أواصل المسير… أين أشم ريح أبي وأمي وأتذوق بعض حلاوة أيام الصبا…
هل أركل العام على مؤخرته، أسبه وافحش له في القول كما يفعل العديدون مع كل عام ينقضي… أم أكون لبقا معه، أقف ماسكا منديلا في يدي لألوح له به في لحظاته الأخيرة وأتصنع بعض الأسى على فراقه… أم انشغل بالبحث عن باقة ورود وقطعة مرطبات واشتري شجرة مضيئة كما يفعل الفرنجة، لأتمنى في الساعة الصفر عاما سعيدا لي ولأحبتي وأنا أشرب كاسا من النبيذ وألتهم فخذ دجاجة…
في القلب أوجاع كثيرة تمنعني من أن أفرح بعام يأتي وأخر يرحل… أو ربما لإحساس بأن كل السنين متشابهة كما الأخبار متشابهة.. عام يرحل يضاف الى سنوات الخيبة والخذلان والهزيمة… فقط وحده الملثم بإطلالته من حين لأخر من بعث في النفس أملا وأشعل جذوة الحماس من المسافة الصفر.. وزيّن ركنا من اللوحة القاتمة بالوان زاهية… خبر يأتي من مضيق باب المندب تتسع به صدورنا، يجعل جباهنا في السماء… ويقول للعالم أن لازالت عند العرب بعض نخوة.
«سنين بتلف، تلف…
أمل بيزيد وجراح بتخف..
ونصبح ذكريات مجرد ذكريات..
مجرد غنوة حلوة من ضمن الأغنيات»..
لا ادري لماذا تذكرت هذه الأغنية الآن… لازالت عبارة «معلييييش» تسكن أذني وتأخذني الى هناك، لأرى تلك الأم وهي تكتب أسماء أطفالها على زنودهم وبطونهم وظهورهم حتى يتم التعرف عليهم وجمعهم أن اصبحوا يوما أشلاء تحت الركام… يطمحون أن يدفنوا مع بعضهم… فعن أي أمنيات وعام جديد تحدثني ؟.
العام الجديد
ماذا لو استقبلت العام الجديد بآيات من القرآن وقيام ليل، طلبا للغفران والرحمة لمن ارتقوا بعد طوفان تشرين… هل يغضب «التقدميون التنويريون» ويرون في الأمر قلة ذوق ؟.
سبق وسألت نفسي ذات مرة لماذا لا يكون الإحتفال بالعام الهجري صاخبا كله موسيقى ورقص وغناء وإلقاء لقصائد جميلة… فهل يغضب «المؤمنون الصادقون» ويرون في الأمر قلة إيمان وحرب على الدين والهوية؟
ماذا سأتمنى في عام جديد ؟… ربما أريد عودة عام من أعوام مضت… عام فيه أبي ذاهب الى الحانوت عصرا… عام فيه أمي وهي في قوتها وصحتها عائدة من الحصاد… عام كنت فيه طفلا يلهو لا يعي شيئا من هذا العالم الكاذب… وقد يبقى متسمرا أمام التلفزة لساعات دون أكل وشرب، مشدودا فاغرا فاه يشاهد سلسلة بيل وسيبستيان… أو نقار الزهواني… أحلم بعام خير أتبع فيه خطوات أبي وهو يحرث، وتزداد سعادتي إن سمح لي بمسك المحراث.. أرى نفسي بطلا قوميا وقتها… من الغد ونحن في الطريق الى المدرسة أقول لرفاقي.. «أمس حرثت السانية مع باباي.. والله خلاني شديت المحراث»..
لي من الذكريات والصور ما يغنيني عن الأمنيات في عام جديد… فقط هو عام يمضي تاركا شجرة حقد وثأر ليأتي بعده عام جديد يسقيها… يسقيها بأغان جميلة، قصائد رائعة، نصوص باذخة… وإيمان قوي بالله وبالقضية.
عام جديد لا اطلب فيه إلا الصحة والستر، والنصر للأمة.