أخيط جراحا لا ترونها..
الناصر أولاد احمد
تقاعدت من التدريس قبل بلوغ السن القانونية وكان هذا التقاعد في شكل انسحاب في صمت بلا حفل تكريم ولا بهرج.
لكل الزملاء في قاعة الأساتذة والإدارة وتلاميذ أقسام الباكالوريا جزيل الشكر لما قرروا والحوا على تكريمي ولكنني اعتذرت وتمسكت بهذا الاعتذار.
بالأمس التقيت صديقي وزميلي ناجي البوعزيزي القى باللائمة وفهمت أن زملائي رأوا أن هذا الانسحاب والاعتذار غير مبرر وغير مفهوم. وهذه مبررات اعتذاري وانسحابي في صمت:
أولا: الفترة التي قضيتها خارج قاعات الدرس تفوق عدد السنوات التي مارست فيها التدريس فعليا. بالضبط قضيت ما يقارب 18 سنة وانا معزول بسبب محاكمات بن علي الجائرة. أخرجت ظلما وعدوانا من مهنة كنت اعشقها.. افضل سنوات التدريس التي عشتها كانت بمدينة بوعرادة.. برغم الحصار والملاحقات والإيقاف والجلسات المتتالية بمحكمة تونس إلا أنني كرست كل جهدي لإتقان هذه المهنة.
ثانيا: بعد الثورة استرجعت “حقوقي” وعدت للتدريس بنفس الرغبة تقريبا ولكن لا الإدارة (مصلحة التعليم الثانوي تدقيقا) ولا النقابة (النقابة الجهوية تدقيقا بكل أعضائها) كانت لها الشجاعة الكافية لإقرار هذا الحق. ليس بإمكانكم نسيان ذلك الجدل الذي دار بيننا داخل اجتماعكم في سنة 2011-2012 حول تمكيني من جدول وفق معايير مضبوطة.. من البداية بدأت العقوبات ومحاولة الكيد وإبعادي عن المركز الذي استحقه. ولا التفقد أيضا (في شخص المتفقد تدقيقا) لأسباب أيديولوجية خالصة كان يتعمد استبعادي من أي اجتماع ولا من لجان الإصلاح. اذكر أن اجتماع لأساتذة المادة الذي تم بمعهد الامتياز حيث ادرس لم توجه لي الدعوة من بين كل الأساتذة.
ثالثا: ما بلغه التعليم من ترد بسبب هيمنة النقابات وسيطرتها على كل شيء من تعيين للإدارة ومن التلاعب بالحقوق الدنيا للأساتذة (دون ذكر الأمثلة وهي كثيرة في جهتي على الأقل) دفع بالكثير من الزملاء إلى التعبير عن رغبتهم في احاديثهم البينية عن مغادرة هذه الوظيفة.. مناخ عام يسود بين الزملاء على أننا نخسر “ديننا الثاني” / التعليم بأسرع ما يكون.. والنقابات احد الأسباب الرئيسية. من يغادر هذه المهنة اليوم فهو محظوظ. ما يجعل الحديث عن تكريم أشبه بحدوثة.
رابعا: عندما قدمت مطلب التقاعد كانت هناك خشية خفية على أن لا يقبل هذا المطلب لأسباب أيديولوجية. بعض زملائي من حساسيات أخرى سألني علنا عندما رفض مطلبي الأول في شهر فيفري الماضي هل من دوافع سياسية وراء الرفض.. استبعدت ذلك أمامهم ولكن بداخلي شبه خشية من هذا الأمر.. نحن في بلد بلا حقوق.. في أي وقت يمكن التراجع عما يسمى بـ “الحق”. تحكمنا الانفعالات والكيد والحقد وخاصة تجاه جهة بعينها.
تجربتي في التعليم كانت متقطعة ومرت بمنعرجات كبرى بنيت اغلبها على الكيد والانتقام وتصفية الحسابات. باختصار لا أبالغ اذا قلت إنني لم أشعر بانتماء كبير لهذا القطاع نتيجة كل هذه المنعرجات. ولكن يشهد الله أنني لم ابخل بجهد ولم أتنازل عن مسؤولياتي طيلة الفترات التي باشرت فيها التعليم فعليا.
لزملائي وللإداريين ولتلاميذي كل الشكر والاعتذار مجددا عن عدم قبول التكريم لأنني لم أجد مبررا له للأسباب التي ذكرت. تكريمي الفعلي انتظرته طيلة مسار التدريس. تكريمي الفعلي كان يمكن أن يمر عبر الإداري والنقابي والبيداغوجي ولا اطلب اكثر مما استحق ولكنه ثلاثي ملغوم أيديولوجيا ولن يستطيع أن يتخلى ذلك في المدى المنظور اللهم بمعجزة.