أساطير إسرائيل العشر.. حوار مع المؤرخ إيلان بابيه
يرى إيلان بابيه (Ilan Pappé) المؤرخ الإسرائيلي الكبير، وأحد أبرز منتقدي السياسات العنصرية لدولة الاحتلال الإسرائيلي، أن فهم جوهر الصراعات يكمنُ في التاريخ، لأنه يوفر الفهم الحقيقي غير المتحيز للماضي، كما أن فهم التاريخ بشكل سليم كفيل بتحقيق السلام، في المقابل، فإن تشويه التاريخ أو التلاعب به يؤزم المشهد ويجعله أكثر تعقيدا وبعيدا عن الحل، وهو أمر متجسدٌ بشكل كبير في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي اليوم، فانتشار المغالطات التاريخية المرتبطة بالقضية الفلسطينية يجعل المنطقة بعيدة عن السلام، في حين أن تشويه التاريخ يشجع على انتشار الاضطهاد، ويحمي نظام إسرائيل الذي يصفه بابيه بالاستعماري والاستيطاني، لذلك تحافظ إسرائيل على تشويه التاريخ بُغية التضليل، وهو ما يؤدي دورا مهما في إدامة الصراع، ويترك القليل من الأمل لإقامة السلام.
في هذا السياق، يرى بابيه أن هناك عشر أساطير محورية حول القضية الفلسطينية تسعى إسرائيل للترويج لها، هذه المغالطات المبنية على تشويه حقائق الماضي والحاضر تمنعنا من فهم أصول الصراع الدائر، وهو ما يتيح استمرار إراقة الدماء من طرف الجانب الإسرائيلي الذي ينتهكُ حرمة كل المواثيق الدولية الرامية للدفاع عن السكان المدنيين.
يرى بابيه أن السردية التاريخية الصهيونية حول كيفية تحويل الأرض الفلسطينية إلى أراض لدولة إسرائيل قائمة على هذه الأساطير العشر، ومنها بث الشك حول حق الفلسطينيين الأخلاقي في أرضهم، وهو ما تقبله كثير من الأحيان وسائل الإعلام الغربية وتسهم في ترويجه بين النخب السياسية، فضلا عن سعي دولة الاحتلال من خلال هذه الأساطير لتبرير إجراءاتها ضد المدنيين الفلسطينيين على مدار أكثر من 60 عاما. يؤكد بابيه أيضا أن القبول الضمني لهذه الأساطير يعكس عدم رغبة الحكومات الغربية في التدخل بأي طريقة ذات مغزى في الصراع المستمر منذ عقود.
حول هذه الأفكار، قدم إيلان بابيه كتابه “عشر أساطير حول إسرائيل (TEN MYTHS ABOUT ISRAEL)” الصادر عن دار نشر “فيرسو (Verso)” سنة 2017 من أجل إظهار تهافت الدعاية اليهودية التي تجحفُ الفلسطينيين حقهم في أرضهم، ودحضها من خلال فحص دقيق للسياق التاريخي، وذلك عبر دراسة كل أسطورة على حدة والنظر إلى مدى تناغمها مع وقائع التاريخ الحقيقية، وتقديم الحجج المضادة لها التي تتوافق مع المنطق والوقائع التاريخية بشكل منهجي ومنضبط.
لذلك حاور ميدان المؤرخ الكبير، الأستاذ بكلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية بجامعة إكسيتر بالمملكة المتحدة، ومدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية بالجامعة، والمدير المشارك لمركز إكسيتر للدراسات العرقية والسياسية، وصاحب كتب أخرى مهمة، من بينها “التطهير العرقي في فلسطين (The Ethnic Cleansing of Palestine)” الصادر سنة 2006، و”الفلسطينيون المنسيون: تاريخ الفلسطينيين في إسرائيل (The Forgotten Palestinians: A History of the Palestinians in Israel)” المنشور سنة 2011، و”أكبر سجن على الأرض: تاريخ الأراضي المحتلة (The Biggest Prison on Earth: A History of the Occupied Territories)” الصادر سنة 2017، في محاولة لفهم البعد التاريخي للصراع بشكل أقرب للواقع من منظور مؤرخ إسرائيلي مدافع عن حقوق الفلسطينيين ومنتقد لاذع لسياسات بلاده العدوانية.
- هناك فكرة مفادها أن فلسطين كانت أرضا فارغة وقاحلة تنتظر الحركة الصهيونية لإعادة إعمارها، هل هذا صحيح؟ أم أنها كانت أرضا تشهدُ وجود مجتمعٍ مزدهرٍ يمر بعمليات تحديث متسارعة؟
لطالما كانت أسطورة “الأرض الفارغة” مهمة للحركة الصهيونية منذ ظهورها، لأنه حتى في بريطانيا، المكان الذي حظيت فيه الحركة الصهيونية بأكبر دعم لها، كان هناك دوما أناس يسألون عن السكان الأصليين لتلك الأرض. أصبحت هذه الأسطورة أكثر أهمية عندما بدأ المجتمع الدولي يزن حجج كلا الجانبين، في حقبة الانتداب البريطاني على فلسطين، فإذا لم تكن البلاد فارغة فإن هذا يعني أن ادعاء الفلسطينيين بأن الصهيونية كانت استعمارا هو ادعاء صحيح، ولذلك كانت هناك محاولة لتقديم هذه الأسطورة وتسويقها.
ورغم انقضاء عقود على سيطرة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية، لا تزال الدولة العبرية تجد من الضروري تحويل هذه الكذبة إلى سلعة والاستمرار في تسويقها، نظرا إلى أن العديد من المتعلمين وذوي الضمير الواعي يرون أن الوضع في فلسطين هو مجرد حركة استعمارية استيطانية جاءت لتهجير السكان الأصليين في فلسطين واستبدالهم. هناك الكثير من الأدلة الواضحة الآن على أن فلسطين قبل وصول الصهيونية كان تشهدُ وجود مجتمع نابض بالحياة، كان يعرفُ وجود مستويات مهمة من التحديث، ويجد نفسه جزءا من العالم العربي الذي تحرر للتو من الحكم العثماني والذي تحدى الجشع الإمبريالي الأوروبي.
- ترتبط أسطورة اعتبار فلسطين أرضا بلا شعب بأسطورة أخرى وهي أن اليهود شعب بلا أرض، فهل اليهود حقا هم سكان فلسطين الأصليون؟
بصدق لا أعرف، ولكن أنا معجب جدا بالبحث الذي قام به علماء مثل شلومو ساند (Sholom Sand)، والذي يُظهر أن اليهود الذين كانوا في فلسطين خلال العصر الروماني بقوا هناك، واعتنقوا المسيحية، وبقي عدد قليل جدا منهم يهودا، ثم اعتنق الكثيرون منهم الإسلام. بالنسبة لي، لا يوجد شيء يسمحُ بالمطالبة بـ”حق الأرض” على أساس قصة امتلاكك لأرض قبل ألفي عام، لا يمكنُ استعمارُ الأرض وتملكُها على هذا الأساس.
- هل معاداة الصهيونية تعادلُ معاداة السامية؟ ألا يقومُ اليهودُ بانتقاد الحركة الصهيونية؟
الأمران ليسا سواء، اليهودية دين والصهيونية أيديولوجية. سيكون الأمر أشبه بالقول إنك إذا كنت ضد المتعصبين البيض فأنت ضد المسيحية، أو إذا كنت ضد تنظيم القاعدة فأنت تعادي المسلمين، عندما تهاجم أيديولوجية ما فإنك تنظر لترى ما إذا كانت تبرر أفعالا تجدها غير أخلاقية. الاستعمار والتطهير العرقي والعنصرية وجرائم الحرب كل هذه الأعمال غير مقبولة أخلاقيا، ومَن يعادي الصهيونية يعتقدُ أنها بوصفها أيديولوجية تعدُّ مصدرَ هذه الأعمال والمُبرر لها. وأنا أوافق هذا الرأي، الاعتراض على الناس يكون قائما على ما يقترفونه من أفعال، وليس بسبب هويتهم، وهذا يمكن أن نطلق عليه معاداة الصهيونية. أما إذا كنت تعارضُ الناس على أساس هويتهم اليهودية، هنا فقط يكون حديثنا عن معاداة السامية.
- انتقدتَ اعتبار الصهيونية حركة وطنية، واعتبرتها -على النقيض- حركة استعمارية إمبريالية. كيف ذلك؟
أفضل طريقة يمكنُ تأطير الصهيونية عبرها هو فهمها بوصفها مشروعا وحركة استيطانية استعمارية. لا تختلف الصهيونية في جوهرها عن السعي الذي قام به الأوروبيون نحو أماكن مثل أميركا الشمالية وأستراليا وجنوب إفريقيا. وقد غادر هؤلاء في نهاية المطاف لأسباب مختلفة، من بينها الاضطهاد الديني، واختاروا أرضا جديدة مسكنا ووطنا لهم، لكن المشكلة الرئيسية هي أن هذه الأماكن كانت مأهولة بالفعل من قبل أشخاص آخرين هم السكان الأصليون. وفي جميع الأحوال، كانت حركات المستوطنين مدفوعة بما أسماه أحد العلماء منطق “إقصاء المواطن الأصلي”، في حالة فلسطين كان المشروع عبارة عن تهجير للفلسطينيين واستبدالهم لصالح اليهود الأوروبيين.
- هل صحيح أن الفلسطينيين تركوا أراضيهم طواعية بعد سنة 1948؟
لا، ليس صحيحا، لكنهم أصبحوا لاجئين وضحايا لعملية تطهير عرقي أعدتها القيادة الصهيونية في أوائل عام 1948 ونُفّذت لمدة تسعة أشهر حتى نهاية ذلك العام. حينها، طُرد أكثر من نصف سكان فلسطين، ودمرت نصف قراها ومعظم مدنها.
- ترى إسرائيل دائما نفسها على أنها دولة ديمقراطية، بل أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. هل هذا الادعاء صحيح؟
هذه أسطورة أخرى، إسرائيل هي دولة تحتل الملايين من الناس وتحرمهم لأكثر من 50 عاما من حقوق الإنسان والحقوق المدنية الأساسية ولا يتمتعون بحق الاعتراض أو تحديد مصائرهم، هذه ليست ديمقراطية. الدولة التي تعامل مواطنيها الفلسطينيين (عرب 48) على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية بحكم القانون والسياسة ليست دولة ديمقراطية. حتى لو وضعنا مسألة احتلال إسرائيل لأراضي 67 جانبا، فإن معظم الأراضي في إسرائيل تقع خارج متناول المواطنين الفلسطينيين، وهناك العديد من المناطق، مثل المستوطنات، هي لليهود حصرا. علاوة على ذلك، نص قانون الجنسية الإسرائيلي لعام 2018 بوضوح على أن الفلسطينيين ليس لديهم حقوق جماعية على الإطلاق، وأن حقوقهم الفردية بموجب القانون ليست مماثلة لحقوق المواطنين اليهود.
- هل المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون في غزة بسبب حركة حماس أم بسبب الحصار والقصف الذي تمارسه إسرائيل على غزة وسكانها؟
المعاناة لأن إسرائيل ترفض قبول الخيار الديمقراطي لأهل غزة، وردا على خيارهم ذلك فرضت عليهم حصارا قاسيا بات يشكل خطرا وجوديا على سكان القطاع، ولذلك يحاولون تنبيه العالم لمحاولة رفع الحصار من خلال نضالهم. حماس، على غرار فتح، تشعر بالمسؤولية أيضا في الدفاع عن الفلسطينيين أينما كانوا، خاصة عندما تنتهك قدسية الحرم الشريف من قبل إسرائيل.
- هل حل الدولتين هو الحل الوحيد الممكن برأيك؟ ألا ترى أن حل الدولتين يهدف إلى زوال فلسطين؟
أعتقد أن حل الدولتين قد مات، كانت هناك فرصة بعد عام 1967 مباشرة لإقامته، ولكن الآن مع وجود 600 ألف مستوطن في الضفة الغربية وسنوات من هيمنة الحكومات اليمينية في إسرائيل، وكذا مع عدم وجود فرصة لأي تغيير في المستقبل، فإنه أصبح حلا غير ذي فائدة، سواء أعجبك هذا الحل أو لا. كما أعتقد أن إسرائيل تستخدم ذريعة “حل الدولتين” وسيلة لمواصلة مشروعها الاستيطاني للتهجير والاستبدال من خلال دفع الفلسطينيين إلى العيش داخل وحدتين صغيرتين من البانتوستانات (Bantustans) في الضفة الغربية وقطاع غزة.
- تجدد مؤخرا العدوان الإسرائيلي على غزة والقدس الشريف، ما رأيك فيما يحدث في ظل الأساطير العشر؟
أعتقد أن صدى كل هذه الأساطير ظهر في الهجوم الأخير، لا يزال لدينا دولة استعمارية استيطانية تحارب السكان الأصليين، وتعتبرهم أجانب، وتحصل على دعم الحكومات الغربية في هذا الصدد، وربما يكون الدعم الداخلي في إسرائيل يستلهمُ هذه الأساطير. لكن من ناحية أخرى، فإن التضامن المذهل الذي أظهره حشدٌ غفيرٌ من الناس حول العالم مع الفلسطينيين، يظهر أن جزءا كبيرا من البشر لم يعودوا يصدقون الأساطير التي تروجها إسرائيل.