مقالات

في دلالة الفيتو الأمريكي أمس

أبو يعرب المرزوقي

اليوم لن أتردد في فقع الدمل بمناسبة الفيتو الأمريكي ضد دعوة أعضاء مجلس الأمن بوقف القتال في غزة وأسأل السؤال الذي اعتقد أنه يكاد يخرج من شفتي جل سكان العالم شرقه ومشرقه وغربه ومغربه لولا الخوف من النبس به. لذلك فسأنبس به: لو كانت أمريكا تحترم حكام المسلمين كانت تفعل ما فعلت؟

ولا أعني بالاحترام المجاملات الدبلوماسية: فهي خبيرة في هذه لكنها تعد ذلك وسيلة من تزكية عملائها لأنها تعلم أن ما يقولونه لها في السر عكس ما يعلنون عنه: فهو أحرص على هزيمة حماس وتحقيق أهداف إسرائيل وأمريكا كما في هزيمة العراق وسوريا وتحقيق أهداف إيران وروسيا خوفا من تحرر شعوبهم.

ولست أقول ذلك لأني مغال. فلست أطالبهم بالدخول في الحرب لنجدة حماس بل اعتبر تدخلهم لو حصل لأدى إلى إلغاء النصرين الحماسي أي عسكريا بهزيمة الجيش الذي يزعم غير قابل للقهر ورمزيا بإسقاط كل سرديات إسرائيل والغرب الرسمي لأن شعوب العالم وخاصة الغربية صارت على بينة من حقيقة إجرام إسرائيل.

كما أني لا أطالبهم حتى بالمشاركة الفعلية في الوجه الإنساني من إنقاذ شعب كامل يعاني من التجويع والتعطيش وإفقاده أدنى شروط الحياة كما وعيشا عضويا في حدودهما الأدنى بعد أن أكدت كل المنظمات الدولية المعنية بذلك بأن المآل هو القضاء على ملايين البشر عاجلا بالجوع أو آجلا بقاتل الأمراض.

ما أطالبهم به هو العمل على تحقيق شروط احترام الغير لهم ومحاولة تحرير انفسهم بالصلح مع شعوبهم الذي هو الشرط الوحيد لفرض القليل من السيادة بقدر الاستطاعة. فالخطاب المزدوج -التضاد بين السري والعلني- له بعدان: دبلوماسي لخداع العدو واستراتيجي ضد الذات لخداع العميل لشعبه: في المحميات.

وسأبدأ بداية هذا الأسلوب: عاشت الأنظمة الانقلابية ما بعد هزيمة 48 كذبة الاستعداد لتحرير فلسطين والثأر من الصهيونية التي احتلت فلسطين بمساندة غربية وشرقية وبتنافس بين الأنظمة العربية المحمية من الغرب على حصتها من القسمة المفروضة. ومن ثم فالنكبة ليست فلسطينية بل هي عربية بالأساس.

كذبة الاستعداد للثأر بالسعي المزعوم لتحقيق الترادع في ميزان القوة أثبتتها الحروب التي تلتها والتي لم تكتف بتعميق هزيمة 48 بل هي وطدت شروط بقاء الغازي بأن أضافت إلى فلسطين أرض من المحميات العربية المحيطة بها بحيث إن مساحتها تضاعفت عشرات المرات فتجذر الوجود الصهيوني في الإقليم.

ومعنى ذلك أن هزيمة 67 نكبة أكبر من نكبة 48 لأن هذه لم تلغ امل الثأر بخلاف تلك: فهزيمة 67 هي التي أوجدت مفهوم “الجيش” الإسرائيلي الذي لا يقهر في مخيال الانهزاميين من العرب. وحتى النصر الجزئي في 73 فهو تحول إلى هزيمة بمزايدات ممن يخلطون بين الأقوال والأفعال فأضاعتها عنتريات عربية.

فتلا ذلك مرضان هما ما أريد الكلام عليه الآن:

  • الأول نتج عن تبن مخادع للقضية في الأنظمة العربية صاحبة الثروة البترولية في الخليج بقيادة إسرائيلية
  • والثاني نتج عن تبين مخادع للقضية من الأنظمة التي تدعي المقاومة والممانعة بقيادة إيرانية. وفي النهاية اتفقوا على مشروع بيروت للحل العربي.

وما فيه من خداع هو الذي مكن من حصول اتفاق العرب حول حل: السلم مقابل الأرض والقصد التطبيع مقابل استرداد الأرض التي احتلتها إسرائيل في 67. وهذا الحل مخادع لعلتين: فهو يوجي بأن العرب في حرب مع إسرائيل ويقدمون خطة لاسترداد الأرض لإيقاف الحرب. وذلك اسمه غطاء على الاستسلام للأمر الواقع.

وضميره: أخطأنا في 48 لما رفضنا التقسيم وحاربنا فهزمنا. والآن نعترف بأننا نقبل بهزيمة 67 وبما ترتب على نصف هزيمة 73 فنقبل بإسرائيل ويكفي أن نسترد ما أضافته في هذه الهزيمة الثانية إلى ما أخذته في الهزيمة الأولى. وإذن فإسرائيل محقة عندما أجابت: أقبل بهدنه مؤقتة في مشروع إسرائيل الكبرى.

وهذا هو فهم إسرائيل للتطبيع. وهو حاصل في السر ومن ثم فمشروع بيروت السلام مقابل الأرض ليس إلا خدعة من الأنظمة للشعوب للقبول بالغطاء على الهدنة المؤقتة الإسرائيلية في مشروع إسرائيل الكبرى. وما أظن أحدا من حكام العرب يجهل ذلك ومن ثم فالحرب ليست بين حماس والعرب من جهة وإسرائيل والغرب.

إنها بين الغرب الذي يحمي حكام العرب وإسرائيل وسعي العرب لتحرير أوطانهم وتحرر إنسانهم كما كانت قبل ذلك بين الغرب وحكام العرب وإيران لمنع نفس السعي: أي إن فرصة التقاطب العالمي الحالي ستضيع كما ضاعت فرصة التقاطب السابق فيخرجوا بخفي حنين فتاتا جغرافيا وشتاتا تاريخيا: من سيحترمهم؟

هل يعقل ألا تحترم أمريكا والغرب إلا إيران وميليشياتها وتستهين بـ22 “دولة” عربية واكثر من 50 دولة إسلامية سنية لو كان لحكامها ما يكفي من الشرعية الشعبية التي تكفي لجعل أمريكا والغرب يرتعد خوفا على مصالحه عندما تصبح الأقوال معبرة عن أفعال وليست جعجعة دون طحين “إلا بمعناه بلهجة تونسية”.

ماذا تعني “طحين” بلهجة تونسية: إنها سلوك من فقد معاني الرجولة فصار أسدا ضد شعبه ونعجة أمام حاميه: هل يوجد من يصدق أن حكام العراق وسوريا ولبنان واليمن” رجال أمام إيران وروسيا وهل يوجد من يصدق أن حكام بقية العرب رجال أمام إسرائيل وأمريكا؟ لا يمكن أن يكون لطحينهم غير معناه التونسي.

وسأختم هذه التغريدات القصيرة بامتحان سهل وهو الحد الأدنى لأثبات خطئي في هذا الحكم ليصح رأي من يعارضه: فإذا أثبتوا نقيض ما أتوقعه بناء عليه فإن ما ادعيته يسقط معه بمبدأ نقيض التالي يفيد نقيض المقدم. كلمة لفعل واحد: إن لم تعترفوا بدولة فلسطين نسحب اعترافنا بدولة إسرائيل. والثمرة عظيمة.

المستوى الأول من الثمرة: الحسم في إثبات نفاق الغرب. فاشتراط الغرب إخضاع الاعتراف بدولة فلسطينية للتفاوض مع الإسرائيليين يعني رهنه بإرادة إسرائيل. وهو ما يعني “الكالند جراك وتمكين المستوطنين من إخراج سكان الضفة والجيش من إخراج سكان غزة. وهو ما يجري حاليا.

المستوى الثاني من الثمرة: الحسم في إثبات نقاق العرب. مواصلة الاعتراف بإسرائيل من دون هذا الشرط يعني القبول بتمدد إسرائيل وختم المرحلة الأولى من إسرائيل الكبرى. ومن ثم فهو تعام على ما يتهدد أوطانهم مثل فلسطين فيكون موقفهم الحالي ليس خذلانا لحماس بل هو القبول بنفس المآل في أوطانهم.

هم إذن لا يخذلون فلسطين بل يثبتون خيانتهم لأوطانهم: فلم تبق لهم شرعية. الاعتراف بشرعية إسرائيل مع العلم بمخطط إسرائيل الكبرى خيانة عظمى ومن ثهم فهم يفقدون كل شرعية بزوال النفاق الذي يجعل كلامهم في السر اكثر عداء لحماس منه لإسرائيل عند بعضهم ومن ايران عند بعضهم: وتلك علة الفيتو.

الفيتو الأمريكي يستجيب لمطالب حكام العرب التوابع لإسرائيل والتوابع لإيران لأن أمريكا -وهي في صراع مع الصين وروسيا على السيادة العالمية- لا يمكن أن تغامر بعداء الإقليم وكل المسلمين لو كانت تعلم أنهم يفكرون في حماية أوطانهم قبل أنظمتهم واحترام شعوبهم قبل كراسيهم: يعني لو كانوا رجالا.

فأمريكا تعلم علم اليقين بعد أن جربت طيلة أربعين سنة الحرب على سنة الإسلام لما تكون شعوبها متحرر من أنظمة عميلة وخسرت كل حروبها حتى مع الصومال أن كل قطر إسلامي فيه حماسيون ويمكن من أن ترى ما تراه الآن في غزة: غزة واحدة أعجزتها فكيف إذا تعددت؟ ذلك هو الردع الحقيقي ولا وجود لسواه.

وهذا آخر كلامي الموجه للشعوب: الحرب الجارية ليست مع إسرائيل لأنها حسمت وخسرتها إسرائيل يوم السابع من أكتوبر وخسرت كل سردياتها معها عالميا بل هي مع عملاء إسرائيل وإيران ومن ورائهما روسيا وأمريكا ولا علاج في هذه الحالة إلا بحماسات غزاوية في كل الأقطار العربية التابعة: الشعب يحرر نفسه.

وإنه لمن السخف الكلام مع أمريكا بمنطق الأخلاق من قوم لا خلاق لهم: فمن يخدع شعبه بالخطاب المزدوج بين السر والعلن لا يمكن أن يحتج بالأخلاق مع الغير. موقف أمريكا أكثر أخلاقية من مقوف العربان المحتجين بالأخلاق. هي صريحة في تحقيق أهدافها ولا تخفيها. هم لهم نفس الأهداف وينافقون شعوبهم.

وقد يستغرب القارئ قولي إن الفيتو الأمريكي هذه المرة كان لصالح المقاومة. ذلك أن المشروع فيه شرط إسرائيلي: إيقاف القتال بمقابل هو تسريح الأسرى بلا مقابل (وطبعي فهو صادر عن الإمارات وفيه السم في الدسم). يعني إفقاد المقاومة أهم ورقة وأهم وعد بتسريح اسرى فلسطين لدى إسرائيل.

يعني حماية ناتن ياهو صديق من هم انتن منه من العربان. ذلك أن فيه نصف شرطه: يعني إقناع الإسرائيليين أن الحرب تتوقف بشرط تسريح الأسرى بالقتال وهو ما يعني اعتراف حماس بالهزيمة فيكون الشرط الثاني أيضا قد تحقق لأنها ترفع الراية البيضاء في هذه الحالة ويستعيد جيش إسرائيل قوته الرادعة.

والفيتو كان لعلتين بينتين: تريد أمريكا القضاء على حماس لكنها تريد تسريح أسراها لديها سلميا خوفا عليهم أولا ولا تريد كذلك الإبقاء على ناتن ياهو ليس من اجل فلسطين بل من اجل اليسار الإسرائيلي في معركة الإصلاح القضائي ضد اليمين الإسرائيلي.

المشروع المقدم باسم العرب يؤكد تحليلي من أن الأنظمة العربية محمعة على أن نجاح حماس خطر عليهم اكثر مما هو خطر على إسرائيل ومثلهم ايران: هذه تفقد الغطاء على بلغ الهلال واليمن وهم يفقدون الغطاء على خيانتهم وعمالتهم وخوفهم من شعوبهم.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock