الأهداف الإستراتيجية للحرب الإسرائيلية على المنظومة الصحية في غزة
محمد الراجي
اعتمدت قوات الاحتلال الإسرائيلي إستراتيجية تدمير البنية التحتية والمنظومة الصحية في غزة، وكان القطاع الصحي أحد أولويات بنك الأهداف العسكرية، الذي دمر الاحتلال منظومته التشغيلية وأخرجها من الخدمة. فما الأهداف الإستراتيجية التي سعى الجيش الإسرائيلي إلى تحقيقها؟
المنظومة الصحية في غزة
دأبت إسرائيل على اختلاق روايات مختلفة ومتعددة في الحرب التي تشنُّها على المستشفيات والمراكز الصحية والأطقم الطبية والمسعفين، والمرضى والمرافقين لهم، والنازحين المقيمين في المؤسسات الصحية، بقطاع غزة. وكانت تنسب القصف والتدمير الذي يستهدف المستشفيات تارة إلى فصائل المقاومة الفلسطينية، مثل اتهام حركة “الجهاد الإسلامي” بقصف مستشفى الأهلي العربي (المعمداني)، في 17 أكتوبر/تشرين الثاني 2023. وتارة أخرى، كان الاحتلال الإسرائيلي يدِّعي أن حصاره للمؤسسات الصحية، مثل مجمع الشفاء والمستشفى الإندونيسي وغيرهما، بسبب استخدامها من طرف حركة حماس بِنيةً تحتية لأغراض عسكرية؛ إذ يَعُدُّها مراكز للقيادة والسيطرة وإدارة العمليات العسكرية وتخزين الأسلحة وإيواء المقاتلين. وتارة، يُروِّج لرواية وجود أنفاق أسفل مجمع الشفاء. وفي محاولة تأكيد مزاعمه، عرض الجيش الإسرائيلي فيديو توضيحيًّا لما وصفها بمعلومات استخبارية دامغة على وجود الأنفاق تحت المجمع الذي يُشكِّل في نظره “القلب النابض” لعمليات الحركة.
ويُمثِّل هذا التعدد في الروايات الإسرائيلية سياسة ممنهجة في التغطية على الجرائم والانتهاكات التي يرتكبها الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، والسعي إلى تشويه فصائل المقاومة وشَيْطَنَتِها، وهو ما تكشفه أحداث ووقائع كثيرة. ويُعد اغتيال مراسلة قناة الجزيرة، شيرين أبو عاقلة، في 11 مايو/أيار 2022، النموذج الأقرب زمنيًّا لهذه السياسة الإسرائيلية في إنتاج وفبركة روايات متضاربة ومضطربة. فقد نسب الجيش الإسرائيلي قتل أبو عاقلة، في أول رواية، إلى فصائل المقاومة الفلسطينية، وما لبث أن غيَّر روايته عن الجريمة سبع مرات خلال يومين. وهذا ما وثَّقه وليد العمري، مدير مكتب الجزيرة في فلسطين، في تقرير عن جريمة اغتيال شيرين، وأثبت فيه مسؤولية الجيش الإسرائيلي عنها، وهي النتيجة نفسها التي انتهت إليها تحقيقات استقصائية قامت بها مؤسسات إعلامية وحقوقية دولية.
لم تستطع الروايات المختلفة التي أنتجها الاحتلال الإسرائيلي عن المستشفيات بقطاع غزة -في محاولات يائسة لإثبات أنها مراكز للقيادة والسيطرة وإدارة العمليات العسكرية لحركة حماس- أن تُقنع الرأي العام العالمي، ولا حتى بعض وسائل الإعلام الغربي، الذي طالما روَّج للدعاية الإسرائيلية والأخبار الزائفة في سياق الحرب على غزة. فقد كشفت، على سبيل المثال لا الحصر، قناة “سي إن إن” أن الجيش الإسرائيلي ربما نقل أو أعاد ترتيب الأسلحة في مستشفى الشفاء قبل قدوم الصحفيين. كما شكَّك الإعلام الإسرائيلي نفسه في رواية وجود أنفاق أسفل مجمع الشفاء، واعتبر أن النفق الذي عرضه الجيش الإسرائيلي ليس سوى قناة صرف صحي غريبة المظهر، أو قناة كابل خرسانية لمولدات الطاقة. وقد اعترف رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إيهود باراك، بأن إسرائيل هي التي أنشأت الملاجئ وحفرت الأنفاق الموجودة تحت مستشفى الشفاء قبل 40 أو 50 عامًا. وقد أثارت تصريحات باراك موجة غضب عارمة في إسرائيل، واتُّهِم بالمساس بالأمن القومي خلال الحرب، وتعالت الأصوات المطالبة بمحاكمته بتهمة “الخيانة”، وسحب الجنسية الإسرائيلية منه.
وإذا كان الجيش الإسرائيلي فشل في تقديم رواية متماسكة تُقنِع الرأي العام العالمي بشأن استهدافه المؤسسات والمراكز الصحية في غزة، فإنه لم يتوقف عن اقتحامها وتدمير أنظمتها التشغيلية وبنيتها التحتية، بل استمر في قصفها وتفجير مرافقها قبل لحظات من بدء سريان الهدنة الإنسانية، في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2023. وهنا، يَبرُز سؤال محوري: ما الأهداف الإستراتيجية من تدمير المستشفيات ومنظومة الرعاية الصحية في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة؟
للإجابة عن هذا السؤال يجب النظر في بعض الأبعاد المكوِّنة لصورة القطاع الصحي في غزة، لاسيما أن الحرب الإسرائيلية على هذا القطاع لم تستثن أي شيء؛ إذ كانت تُدمِّر جميع الوسائل والمصادر والموارد التي قد تُسهِم في إنقاذ حياة المرضى والمصابين. وهو ما يُثير أسئلة عديدة بشأن الهدف من قتل الأطباء والممرضين والمسعفين، وتخريب الأنظمة التشغيلية والأجهزة والمستلزمات الطبية وتفجير المرافق والمراكز الصحية (مثل مراكز غسيل الكلى)، وقطع الماء والكهرباء عن المستشفيات، ومنع دخول الطعام والشراب، وتدمير الطرق التي تؤدي إلى المراكز والمؤسسات الصحية… لذلك، فإن تحديد أبعاد الصورة يحتاج إلى مقاربة هذه الأسئلة: هل التفوق العسكري والتكنولوجي للجيش الإسرائيلي لا يبدو قادرًا على حسم نتائج الحرب على قطاع غزة وتحقيق أهدافها فتلجأ إسرائيل إلى تدمير القطاعات الخدمية الصحية وغيرها؟ هل العمليات العسكرية التي تشنُّها إسرائيل على القطاع الصحي تُعد جزءًا من الإستراتيجية الحربية لإخضاع المقاومة الفلسطينية ودفعها للاستجابة لشروط الاحتلال، وأيضًا لضرب حاضنتها الاجتماعية وإنهاء حكم حركة حماس لغزة؟ بمعنى أليس تدمير المؤسسات الصحية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية والثقافية (المساجد والكنائس) هدفًا إستراتيجيًّا للاحتلال الإسرائيلي من أجل التهجير القسري للسكان والتطهير العرقي للفلسطينيين وإنهاء جميع مظاهر الحياة في غزة؟
يساعدنا مفهوم “عقيدة التدمير الإسرائيلية”، أو “إستراتيجية الضاحية”، في مقاربة هذا الحقل الاستفهامي، وتحديد طبيعة الأهداف الإستراتيجية من تدمير المستشفيات ومنظومة الرعاية الصحية في غزة، وتحليل رهانات هذه العقيدة التدميرية. وقد تبلور هذا المفهوم/المبدأ، في سياق الملاحظات والنتائج التي خلص إليها غادي أيزنكوت (القائد السابق للمنطقة الشمالية في إسرائيل) وآخرون، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006. وتمثِّل عقيدة التدمير النهجَ الذي اتبعته القوات الإسرائيلية في الضاحية الجنوبية بمدينة بيروت؛ إذ ترتكز هذه الإستراتيجية على إعطاء الأولوية لقوة النيران عبر القصف الجوي المفرط لإلحاق الدمار الهائل بالتجمعات السكنية، والقوة المدنية التي تستند إليها المنظمة، وضرب المصالح الاقتصادية، والبنية التحتية، وحسم الحرب بسرعة من دون أي اعتبار للرأي العام العالمي. وهنا، يصبح الجهد العسكري الذي يهدف إلى ضرب القدرة على إطلاق الصواريخ مسألة ثانوية؛ لأن الجهد الأساسي هو توجيه ضربة غير متكافئة تصيب مصادر قوة المنظمة في مقتل لخلق واقع جديد وإقامة نسق مختلف من العلاقات. وهذا سيؤجل أي عملية يمكن أن تقوم بها المنظمة في المستقبل أعوامًا، وتتخبَّط في عمليات ترميم مكلفة وطويلة المدى.
خاتمة
بيَّنت مسارات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي استمرت 49 يومًا، أن الآلة العسكرية لجيش الاحتلال كانت تهتدي بما يسميه قادتها العسكريون بـ”عقيدة التدمير الإسرائيلية” أو “إستراتيجية الضاحية” التي تركز على “تسطيح الأرض”، وهو ما يعني إعطاء الأولوية لقوة النيران الجوية والمدفعية لتدمير البنية التحتية للقطاع. ويشمل ذلك جميع المرافق والمؤسسات الخدمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية (المساجد والكنائس)، ولا يُستثنى من ذلك حتى مؤسسات الأمم المتحدة، خاصة وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين. وكانت المنظومة الصحية هدفًا أساسيًّا لهذه العقيدة الإستراتيجية ربما أكثر من غيرها؛ لأنها تعني السكان والمقاومة على حدٍّ سواء. ولذلك ركز الاحتلال على حصار المستشفيات والمراكز الصحية، ثم تخريب المرافق والأقسام وقتل المرضى والطواقم الطبية والنازحين الذين لجؤوا إلى المستشفيات حماية لأنفسهم من بطش الآلة العسكرية (المعمداني نموذجًا)، ثم القصف الممنهج لهذه المستشفيات والمراكز الصحية وتفجيرها بعضها (مجمع الشفاء، والإندونيسي).
وكان الاحتلال الإسرائيلي يهدف من خلال التدمير الهائل للمنظومة الصحية، والتطهير العرقي والإبادة الجماعية للسكان، إلى إجبار الأهالي على التهجير القسري نحو سيناء؛ إذ يدرك جيدًا أن تدمير حركة حماس والمقاومة الفلسطينية تحول دونه عقبات وتحديات كثيرة. لذلك فإن الهدف الإستراتيجي عبر التطهير العرقي والإبادة الجماعية يتمثل في دفع السكان إلى الرحيل القسري عن غزة؛ وهو الأمر الذي لم يستطع الاحتلال أن يحققه في هذه المرحلة بسبب صمود الأهالي وتشبثهم بأرضهم وديارهم، وكذلك بسبب الرفض المصري لأطروحة التهجير القسري. لكن لا يزال يراهن على إعادة قطاع غزة إلى “العصر الحجري” حتى تتفرغ حركة حماس لجهود الإعمار وبناء ما دمرته الحرب، ولكي لا تنشغل المقاومة بتطوير قدراتها العسكرية وتهديد كيان الاحتلال.
مركز الجزيرة للدراسات