أبو يعرب المرزوقي
لما قلت في الفصل السابق إن النصر تحقق وأن الخوف لا يتعلق به بالمحافظة على ثمراته فالقصد التمهيد لبيان المناورات التي ستحاول تفريعها من كل مضمون استئنافي حقيقي لأنها ستكتفي بإضافة محمية عربية إلى الـ22 في الجامعة العربية: ومن ثم منع الجمع بين إحياء ثورة التحرير وإحياء ثورة التحرر:
- فالأولى قتلها الاستعمار غير المباشر بتنصيب عملائه على محميات سموها دولا وهي أكثر تبعية مما كانت قبل هذا التحرير المزعوم.
- والثانية قتلتها أنظمة المحميات أي الأنظمة التابعة للاستعمار المباشر فكان القتل في الحالتين حربا أهلية بين فهمين فاسدين للتأصيل والتحديث.
وقد أشرت في الفصل السابق أن الشعوب العربية التي لا تستطيع اليوم مساندة استئناف فاعلية تحرير جغرافية الإسلام انطلاقا من قلبها المساندة الفعالة التي تتجاوز التعاطف ينبغي أن تتعامل مع أقطارها على أنها هي بدورها في وضعية غزة دون السعي للحرب الأهلية.
فلا فرق عندي بين ما نتج عن 48 من ثورات عسكرية آلت إلى ما نعلم أي جعل كل الأقطار العربية محميات وشعوبا في معازل من جنس غزة تحول دون شعبها وسياسة تحقق شروط الإرادة الحرة والحكمة الراجحة.
الحد الأدنى من المقومات التي تمكن من رعاية وحماية تحققان السيادة اعني حجم الأحياز التي تفي بشروط التنمية المادية القادرة على إبداع الثروة والتنمية الروحية القادرة على إبداع التراث أي شروط السيادة والندية بمنطق العصر: الجغرافيا والتاريخ والديموغرافيا والتجانس الأنثروبولوجي ومجموعها ذلك الحضارة الواحدة..
وما قد يتلو هزيمة 23 لا قدر الله من ثورات شعبية إذا لم تكن مختلفة عما حصل في 48 أعني شعبية سلمية وليس عسكرية انقلابية فإن بلاد العرب ستؤول إلى ما هو أسوأ من مآل 48.
فالحيلة التي قد تفسد النصر ببعديه العسكري والخلقي في 7 أكتوبر وما تلاها تتمثل في حل يكتفي بإضافة محمية عربية جديدة تسمى دولة في حدود 67 تنهي إحياء ثورة التحرير وتحول دون إحياء ثورة التحرر (الربيع) فتصبح محمية فلسطين لا تختلف عن وضعية الأردن وتونس: يعني محميات متسولة.
ولأذكر أني لما التزمت بالعمل مع النهضة لمدة سنة تم الاتفاق على أنها ليس للحكم بل لتحرير الدستور الذي يحقق مطالب الثورة أي الحرية والكرامة. لذلك قمت بحملتي لما ترشحت للمجلس التأسيس وترأست دائرة تونس الأولى المتعلقة بأحياء الشعبية.
وقد كان هدفي تحديد شروط تحقيق هذين الهدفين وشرطهما أن تستعيد تونس وحدة حركة التحرر التي تفككت بسبب الصراع الناتج عن عدم التوفيق بين التأصيل (عبد العزيز الثعالبي) والتحديث (الحبيب بورقيبة).
فكانت أول مداخلة لي في افتتاح الحملة الانتخابية في ملعب الكرة بسيدي بوزيد متعلقة بشرط استئناف مسيرة تحرير تونس خلال جمعه بتحرر التونسي وهو بالأساس تجاوز بذرة الحرب الأهلية التي حصلت في حركة التحرير بين الثعالبي وبورقيبة. والمعلوم أن هذه الحرب الأهلية صارت دامية بين صالح بن يوسف وبورقيبة.
لم يؤخذ برأيي فكان الفشل الذي هو استئناف الحرب الأهلية بين الإسلاميين والعلمانيين والبقية يعملها الجميع. وسيذهب الغرب إلى نفس الحل في فلسطين: باللعب على الصراع بين حماس وفتح فيغلبوا فتح على حماس كما غلبوا بورقيبة على الثعالبي وابن يوسف.
ولست اسقط ما حدث في تونس على ما سيحدث في فلسطين بل اذكر خطة الانتقال من الاستعمار المباشر إلى الاستعمار غير المباشر: تنصيب من يكون الغرب قد اختارهم بديلا منه يختاره من أبناء مستعمرته لرعاية مصالحه. لذلك فهم يفكرون في تنصيب محمد دحلان.
والمشكل هو أن ما حصل للبورقيبية تبعه ما حصل للثعالبية وما قد حصل لعرفات وربما لحماس سيحصل لهما نفس الشيء: أولاهما ورثها من ليس بحجم بورقيبة والثانية ورثها من ليس بحجم الثعالبي فيكون البديل في فلسطين من ليس بحجم عرفات ومن ليس بحجم يحيى السنوار.
فاستأنفت الحرب الأهلية في فلسطين كما استأنفت في تونس بعد ثورة الربيع: اليوم كل أدعياء الحداثة ولنصطلح عليهم بورثة البورقيبية المشوهة في حرب مع كل أدعياء الإسلام ولنصطلح عليهم بورثة الثعالبية المشوهة.
وكانت مثل الأولى مفتعلة بقيادة فرنسية مع إضافة عاملين آخرين لم يكونا موجودين في الحرب الأهلية الأولى: أي إسرائيل وإيران. هذه اللعبة التي قد تحصل في فلسطين فيها إسرائيل وإيران وليس مجرد الزعماء العرب صنيعة سايكس بيكو وتنصيب الصهيونية والخمينية في الإقليم يتقاسمان السيطرة على العربان.
وعندما نبحث عن علل غلبة صف بورقيبة في الحرب الأهلية الأولى وعلل غلبة من ورثوه في الحرب الأهلية الثانية نجدهما من نفس الطبيعة وهي مضاعفة:
- الثعالبيين كانوا يعتمدون على فهم متخلف للأصالة وعلى نخبة تقليدية من علماء الدين خاصة.
- والبورقيبيين كانوا يعتمدون على فهم متخلف للحداثة وعلى نخبة تقليدية من علماء الدنيا.
فكان الفصام ليس بين الشخصين بل رؤيتين لطبيعة العلاقة بين السياسي والديني وبين الدنيوي والأخروي. وكان طبيعيا: أن يغلب من اختار صف بورقيبة لأن قاعدته يوحد بينها البعد النقابي والاجتماعي ومن ورائه الاستعمار المباشر الذي كان يعد لجيش من العملاء تتبنى هذه الرؤية وتدعي مطالب من جنس الربيع العربي.
أما من اختار صف الثعالبي فإن قاعدته يوحد بينها البعد التراثي الإسلامي برؤيته التقليدية لتقديم الأخروي على الدنيوي وضده الاستعمار الفرنسي الذي كان يعتبر الإسلام علة المقاومة من جنس حماس.
والغريب أن ما حدث في تونس بين الحربين العالميتين حدث في الإقليم بعد 48 وفي العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتقاسم العالم بين القطبين:
فالانقلابات التي حصلت في الإقليم أحدثت نفس الظاهرة التي حدثت بين الثعالبية والبورقيبية. أي الصدام بين التأصيل والتحديث قتلا لمحرك التحرير والديني باسم محرك التحرر والاجتماعي فأفشل النوعين بسبب الحرب الأهلية في كل قطر الحرب الإقليمية والعالمية بين القطبين.
وهو ما يعني أن الغرب كانت له استراتيجية شبيهة باستراتيجية فرنسا في المغرب العربي: تشجيع التحديث المستبد الذي هو علة الحرب الأهلية بين الإسلاميين والأنظمة العسكرية التي مكنوا بعض عملائهم من الحكم باسم الثورة التحريرية والاجتماعية في الأقوال التي لا تطابق الأفعال.
لعلم استراتيجيهم أن النجاح في توطيد سايكس بيكو والمحافظة على نجاح وعد بلفور لا يخاف عليهما إلا من نجاح الإسلاميين في الوصول إلى الحكم وخاصة بعد أن بدأوا يتداركون علل التخلف الذي كان يتصور التحرير ممكن بالاقتصار على فاعلية الدين والآخرة وإهمال فاعلية العلم والدنيا.
فتحولت الحرب الأهلية التي كانت محلية في تونس وفي تركيا خاصة إلى معركة إقليمية بين الأنظمة وفي كل قطر بين الطبقات الموظفة في حرب أهلية بين الأصالة والحداثة.
وبهذا بدأت حركة التحرير الفلسطينية رغم أن بدايتها كانت إسلامية ومن بلد إسلامي هو الكويت (فتح) ثم سيطر اليسار وغالبه مسيحي فكانت النهاية الأولى هي حرب سبتمبر الأسود وهي حرب أهلية بين النظام الأردني وفصائل التحرير بقيادة فتح.
لكن فشل فتح وأوسلو أحيا الإسلام السياسي في فلسطين فكانت نشأة حماس التي وضعت المحلي والإقليمي والدولي أمام معادلة جديدة: ولكن هذه المرة بين تقاطبين صارت الغلبة فيها في المستوى الروحي والقيمي للإسلاميين لجمعهم بين البعدين في المقاومة التحريرية والتحررية:
واعتقد أن الاستراتيجية الممكنة مستقبلا لإفشال الجمع بين التحرير والتحرر عند المسلمين ورمزه الصلح بين بورقيبة والثعالبي في تونس وبين آخر خلفاء العثمانيين وأتاتورك هو الإسراع في تكوين محمية عربية إضافية في الجامعة العربية -فلسطين 67-.
ومواصلة لعبة حماية تفوق إسرائيل فعليا من كل الغرب وحماية بقائها من كل الشرق ولعبة حماية تفوق إيران فعليا من كل الشرق وحماية بقائها من كل الغرب.
ذلك هو ما أحاول التصدي له مستأنفا ما دعوت إليه في أول لقاء الحملة الانتخابية في سيدي بوزيد سنة 2011. وهو ما شرعت فيه تركيا عندما صالحت بين التحرير والتحرر دون حرب أهلية أو بهزيمة دعاتها سواء بإفشال انقلاباتهم أو بهزيمتهم الانتخابية.
وهذه هي الاستراتيجية التي أدعوا إليها:
نعتبر ما حصل مرحلة انتهت: لم يعد عملاء الاستعمار غير المباشر لهم من القوة ما يكفي لمنع الثورة السلمية للجمع بين التحرير والتحرر بحيث يكون الوصل بين مرحلة ما قبل تنصيب العملاء لجعل الاستقلال صوريا وليس فعليا وذلك من أجل دفن المقاومة التحريرية باسم الإسلام والاستعاضة عنها بالتبعية والتعاون باسم التحديث المستبد للحرب على الإسلام بجعل المحميات دولا وأمة. ومعنى ذلك أن المقاومين من جنس ما في تونس والمغرب والجزائر لإخراج الاستعمار المباشر تم إلغاء دورهم.
وأصبح العملاء يدعون تمثيل “دولة” وطنية يسمونها أمة ويسهمون في تحقيق ما عجز دونه الاستعمار أعني إضافة تشتيت التاريخ إلى تفتيت الجغرافيا:
بعد تفتيت الجغرافيا التي نجح فيه الاستعمار المباشر بواسطة سايكس بيكو واستنبات إسرائيل وإضفاء دور الشرطي لها ولإيران الشاهنشاهية ثم الخمينية.
جاء تشتيت التاريخ الذي كاد ينجح فيه الاستعمار غير المباشر بواسطة عملائه ولعبة إسرائيل إيران فجعلوا تاريخ كل قطر منفصلا عن تاريخ الأمة المشترك: بابلي وفينيقي وفرعوني وقرطاجني إلخ…
لكن قوة الإسلام وحضارته تغلبت على ذلك كله وحصل في الأقطار وفي الإقليم وفي العالم وضعية كونية جعلت فرصة الاستئناف تصبح كل شروطها متوفرة.
وكنت انتظر الحدث الذي سيجعل ذلك في متناول الوعي العام بحيث إنه يحدد رؤية كونية تكون فيها جميع شعوب العالم أميل لقيم الإسلام كما تحددها النساء 1 والحجرات 13.
تلك هي الاستراتيجية التي اقترحها للتغلب على نفس الاستراتيجية التي سيلجأ إليها حماة إسرائيل وايران والأنظمة العربية لمنع الاستئناف أي شرطيه: استكمال التحرير والتحرر بالجمع بينهما فيكون ما حصل في غزة والعالم من نصر عسكري وخلقي بداية تحقيق الثورة العالمية التي تمثلها قيم القرآن.