أبو يعرب المرزوقي
يوم الاثنين 27 نوفمبر تنتهي الهدنة الأولى وتكون المعركة في غزة قد دامت 51 يوما. وسواء تلتها هدنة ثانية وثالثة لتعدل مدة الهدن مدة مرحلة المعركة الأولى بحيث تكون مرحلة رد الفعل منه مضاعفة أولاهما كانت لإخراج المجاهدين من غلاف غزة والثانية إخراج مدنييه من غزة مقابل إخراج ثلاثة أضعاف من أسرى الفلسطينيين من سجونه.
وما كان رد الفعل يتضاعف لو تمكن العدو من اخذ أسراه عنوة وليس في هدنة بشروط المقاومة وليس بشروط يفرضها في المعركة. اقتحام أرض غزة المقدسة يحيط به نوعان من رد الفعل الدال على نصف الهزيمة.
ذلك أن العدو تصور نفسه قد أعد العدة للحسم السريع عله يسترد ما بعض المهابة لكنه لم يحقق لا الحسم ولا الانتقال من الفعل إلى رده المهابة بعد ما يقرب من خمسين يوما حاول فيها الخروج من صدمة بعد 7 أكتوبر.
وسبق أن قلت إن المقاومة إذا صمدت شهرا من بداية محاولته غزو غزة. وقد فعلت ما يحول دون أن يستطيع استرداد مهابته وهو ما جعل ما توقعته يحصل لأن ذلك دليل عجزه ومن ثم فأمريكا هي ستضطر لفرض وقف القتال وإن بصورة متدرجة.
فهي ستبدأ بالهدن وتنمو بمقتضى ما سيحصل بعد تسريح المدنيين في إسرائيل وبعد ما يتغير موقف الرأي العام الدولي إزاء القضية كلها فيصبح الحل السياسي ممكنا. وحينها يأتي ما يجعلنا نخشى ما أريد الكلام فيه اليوم: لذلك قلت في الفصل السابق إن النصر قد تم لكن المشكل الآن يتعلق بالمحافظة عليه بمنع تكرار ما تلا ما أوصل إلى أوصلوا.
فالمعركة ليست بين غزة وإسرائيل بل هي بين فلسطين كلها مقاومة وشعبا وإسرائيل كلها جيشا وشعبا وهي معركة ليس العسكري منها هو الأهم بل الأهم هو ما ترتب عليه من بيان هشاشته عسكريا وشعبيا ومن بيان صلابة الفلسطينيين مقاوميا وشعبيا.
والعجيب أنه قد حصل لإسرائيل في معركة غزة ما حصل لإيران في معركة سوريا. فكلتاهما تبينت هشاشتها عسكريا وشعبيا. فكما استنجدت إيران ببوتين وطيران روسيا استنجدت إسرائيل ببايدن وأساطيل أمريكا بمباركة وتمويل من متخاذلي الحكام العرب الحائلين بشوكة المحميات (العسكر والأمن) دون الشعوب ومساندة الفلسطينيين.
لذلك فهم من حيث لا يعلمون قد حددوا طبيعة السند المنتظرة من الشعوب العربية: كل ما يتحدى الطواغيت في بلاده يسهم في نصرة فلسطين إقليميا وفي نصرة الثورة الكونية التي بينت أهمية تغير الرأي العالم الدولي ليصبح أميل إلى الرؤية القرآنية للأخوة البشرية.
ولذلك بينت أن قدوم الأساطيل لم يكن بسب الخوف على إسرائيل من إيران ومليشياتها لأنها تعلم وهاء عنترياتهم. إنما هي أتت بأساطيلها لحماية الأنظمة العربية الذين تخشى عليهم من افتضاح هذين الهشاشتين ولعبة المناكفات المسرحية بين إيران وإسرائيل للحافظ على دورهما الحامي من التخويفين لتوابع هذه من تلك وتوابع تلك من هذه.
وطبعا لم أكن غافلا عن الكلفة المتوقعة في المعركة. فهي لم تكن بين إسرائيل بسند ومشاركة من الغرب كله والمقاومة المحاصرة بسند الإيمان والشعب كله رغم كونه سجين الأنظمة. وإذا ما استثنينا سند قطر الإعلامي فإن كل الأنظمة العربية توظف شوكة المحمية لمنع الشعب حتى من التعبير عن التعاطف بالتظاهر.
وكل الذين يتباكون على الكلفة فينددون بمقاومة حماس. منافقون لأن نفس هذه الكلفة حاصلة في كل فلسطين وإن بتدرج بحيث إن القتل اليومي لا يتوقف في كل فلسطين وفي كل أقطار الربيع سواء من المحتمين بإسرائيل أو من المحتمين بإيران.
وتباكي المنافقين على الكلفة لو كان لهم ذرة من وعي لفهموا أن دورهم آت: فإذا قبل الفلسطينيون بالوضع ولم يقاوموا فمعنى ذلك أن مشروع إسرائيل وإيران الكبريين مآله القضاء عليهم بنفس الأسلوب لو كانوا يعون.
وينبغي أن تكون الهدنة أو الهدن لحظة فاصلة بين المرحلتين الأولين من المعركة أي ما قبل الهجوم البري وما بعده وما أتوقعه من مرحلتين أخريين سيتضاعف فيهما نصر المقاومة بفضل ثمرتيهما في الميدان العسكري الدال على الصمود وفي الميدان الإعلامي الدال على بداية الانتقال من المحلية والإقليمية إلى العالمية.
ما أنوي الكلام فيه هو استراتيجية المرحلتين المقبلتين بعد الهدن وما يتهددهما محليا وإقليميا ودوليا سواء تحولت إلى وقف نهائي للقتال بشروط حل المشكل الفلسطيني حصرا في انشاء محمية عربية أخرى أو بقي القتال فيهما ليسرع الحسم لصالح القضية الفلسطينية جزءا من حسم معركة إقليمية وكونية يستعيد فيه الإسلام دوره بما يحققه من تلاق بين ثورة جارية في الغرب كذلك لأن الشعوب فيه صارت واعية بضرورة التحرر من نفس الاستلاب والخضوع لنفس المافيات العالمية.
والرمز في الإقليم هو لعبة الغزوين التي هي جوهر النفوذ الصهيوني الغربي والصفوي الشرقي الحائلين دون شروط الجمع بين تحرير الإقليم من مافياته الحاكمة وتحرر العالم من مافياته الحاكمة فيلتقي تحرير الإقليم وتحرر العالم في الغرب والشرق على حد سواء وتلك هي غاية الاستئناف الإسلامي.
تلكما هما المرحلتان المقبلتان والسؤال في المحاولة هو: ما الاستراتيجية التي ينبغي اتباعها لئلا تبقى المقاومة الفلسطينية قطرية بمعنى الاقتصار على قضية قطرية للإبقاء على سايكس بيكو بل وللمزيد من التفتيت الجغرافي والتشتيت التاريخي.
فكل مراعاة لمصلحة فلسطين من حيث هي قطر تجعل هدف المقاومة لعبة في إطار على سايكس بيكو الذي هو شرط تحقيق وعد بلفور وتوهم المستفيدين من ذلك أصدقاء في حين أنهم اخطر على الأمة من إسرائيل:
- فالعدو الصهيوني نبت أجنبي يطلب الأرض ومآله الرحيل كما حصل للصليبيين وهو لا يستطيع تخريب العروة الوثقى أي سر وحدة الأمة وقوتها الروحية أي الإسلام بل هو بتحدي الأمة يوقظ فيها هذه الوحدة الروحية الكونية.
- لكن العدو الصفوي من الإقليم و هو لا يكتفي بالأرض بل هو يخرب الإسلام من داخله. وهو نوعان: الصفوية بالتشييع والأنظمة العربية التي مكن لها الاستعمار لتوطيد التفتيت الجغرافي وتحقيق التشتيت التاريخي بالاستبداد سواء كانوا توابع إسرائيل أو من توابع ايران إذ بذلك يلغى دور الشعوب في تحديد مصيرها وتحقيق شروط قوتها المادية والروحية.
فهي أصبحت توابع إما لإسرائيل ومن يحميها أو لإيران ومن يحميها تبعية هي سر بقاء الأنظمة الفاسدة والمستبدة الحائلة دون نجاح ثورة التحرير والتحرر. فكلاهما يحارب الإسلام فيحول دون الشعوب والقدرة على شرط ثورتها الكونية أي الجمع بين التحرر والتحرير الذي صار مطلب كل شباب العالم ونخبه غير الفاسدة.
ينبغي إذن في المرحلتين المقبلتين التركيز على مصلحة الأمة من حيث كونها المستهدفة وجعل فلسطين في ما يجري حاليا رمز ما كانت في كل تاريخ الأمة رمز انتصاراتها: ضد الصليبيين وضد المغول وضد الاستعمار وبداية توحيد الأمة.
وسر الحلف بين الصهيونية ومن يحميها في العالم ومن يتبعها في الإقليم والحلف بين الصفوية ومن يحميها ومن يتبعها في الإقليم هو نفس الغاية: الإبقاء على تفتيتها بل والمزيد من سياسة سايكس بيكو. وهما يمثلان سياسة الغرب والشرق لمنع الاستئناف.
فهما يمثلان التطبيق الحرفي لاستراتيجية الغرب والشرق يستعملهما لتأبيد استتباع الفتات العربي ليس في نظام الإقليم الرسمي فحسب بل في رؤية النخب التوابع له. فتكون الاستراتيجية الأحكم في المقاومة خلال المرحلتين القادمتين ذات هدفين بينين:
الأول هو دفع العدو الصهيوني وتوابعه من العرب إلى مواصلة حمقه لتكبيده خسارة المعركة العسكرية بفضل إخساره المعركة الخلقية ليس في رؤية العالم فحسب بل في رؤية شعبه خاصة.
الثاني خلال الأول هو تخلص المقاومة السنية من توظيفيها الخبيث الذي هو جوهر استراتيجية العدو الصفوي وتوابعه من العرب. فهذا التوظيف هو الذي ييسر اتهامها بالإرهاب الذي يجعل موظفيها يدفعونها إلى ما فعل بالقاعدة (11 سبتمبر) وبداعش.
المسألة الأولى: حصيلة كشف الحساب
ماذا حققت المقاومة وماذا حقق العدو. من الرابح ومن الخاسر. المقاومة ربحت سلبا المعركة العسكرية أي إنها لم تهزم لكنها لم تنتصر بعد. والعدو لم يهزم لكنه كذلك لم ينتصر بعد وإذا استأنف القتال فمعنى ذلك أنه يمكن أن يكتفي بجعل شمال غزة مثل الضفة لأن ذلك هو الوحيد الحد الأدنى من استرداد مهابته بعد نكسة السابع من أكتوبر وفشل السيطرة على كل غزة والتهجير.
وإذن فسيحاول التخلص من الضغط الدولي بالقبول باحتلال جنس ما يحصل في الضفة فينصب عملاء لحكمها لأن المعركة العسكرية إذا تجاوزت ذلك فهي تعني الانتقال إلى حرب عالمية اضطرارا لا اختيار. لأن تعميم ما حصل في شمال غزة عليها كلها يعني عملية إفناء جنيسة لإفناء الهنود الحمر وهو ما لن يبقله العالم فلا يبقى لإسرائيل إلى اللجوء إلى السلاح النووي لفرض ذلك: وتلك هي علة الانتقال إلى الحرب العالمية.
المسألة الثانية: استراتيجية المرحلتين القادمتين
فاستراتيجية المرحلتين الأخيرتين عند العدوين وعند حماس. خلال الهدنة او الهدن تدارك العدو لفشله الاستخباري لأن احتلاله لشمال غزة هدفه الأول هو هذا التدارك وهدفه الثاني هو استرداد المهابة.
لذلك فلا بد من الحذر والاستعداد في هذا المجال بتغيير كل ما كان معلوما لدى من يمكن أن يستمد منه العدو معلوماته على المقاومة وخاصة إذا عجزت عن إيقاف احتلاله لشمال غزة. لكن روح غزة لا يمكن قهرها كما حصل لروح الضفة قبل انضمامها هي بدورها للمقاومة بنفس روح غزة.
فيكون خطأ العدو فادحا لأنه سيمكن من توحيد الضفة وشمال غزة فيزول الفاصل بينهما وتلك هي بداية التحرير الفعلي لأن إسرائيل هي التي ستقسم خاصة وما يسمى بغلاف غزة لن يعود إليه سكان المستعمرات الثلاثين فتكون إسرائيل هي التي انقسمت وليس غزة.
المسألة الثالثة: ساحة المعركة الإقليمية والعالمية
فالعرب وبقية العالم والغرب خاصة. أهم حدث نتج عن السابع من أكتوبر هو أن العالم الغرب صار شبابه وفضلاؤه يرون بالعين المجردة كل الإجرام الإسرائيلي ليس في فلسطين فحسب بل في بلادهم أيضا: فحكامهم ونخبهم وإعلامهم كله لا يعبر عن مواقفهم وليس مستقلا بل هو مثل الحكام العرب ونخبهم من توابع الصهيونية المسيطرة على أرزقاهم المادية بالبنوك وعلى أرزاقهم الروحية بالإعلام.
المسألة الرابعة: ضرورة الجمع بين التحرير والتحرر
فإحياء التحرير في الأمة وإحياء التحرر فيها وفي العالم هما رهان هذه المعركة التي لم تعد محلية ولا حتى إقليمية بل هي صارت معركة عالمية. فيترتب على ما تقدم نهاية الاستعمار غير المباشر. لأن أدواته هم الحكام العرب ونخبهم. الأهم من ذلك هو أن شعوب الغرب هي بدورها صارت تدرك أنها هي أيضا مستعمرة من حكامها ونخبهم وليس حرة كما يكذبون عليها:
فالمعلوم أن حركة التحرير توقفت منذ ما يسمى الاستقلال ولم تعد شعبية ولا خاصة موحدة للأمة بل هي تفتتت تفتت الجغرافيا لأن الاستعمار خنقها ومكن لعملائه من الاستحواذ على حركة التحرير الذي صارت تسمى الأقطار أمما باسم الدولة المزعومة وطنية وهي مجرد محمية استعمارية.
والمعلوم أن حركة التحرر توقفت منذ أن صار العملاء الذين مكن لهم الاستعمار يحاربون الإسلام باسم التحديث المستبد الذي هو مداره في الحقيقة إنهاء دور الرابطة الروحية والثقافية التي تتجاوز التفتيت الجغرافي الذي أرادوا توطيده بالتشتيت التاريخي.
وأخيرا فإن هذه الوضعية التي فرضت على شعوبنا تبين بالتدريج أنها مطبقة في العالم كله بما في ذلك في الغرب نفسه ليس بشكلها المتعلق بالهوية الحضارية والثقافية (الدين واللغة والتاريخ) بل بشكلها المتعلق بالتمييز الطبقي وشروط المعيشة المادية والروحية. بحيث إن التفتيت الجغرافي صار طبقيا والتشتيت التاريخي صار متعلقا بقيم الغرب نفسها لكونها صارت مجرد خطاب منافق لا ينطبق إلا على الأغنياء. فالشعوب الغربية وخاصة شبابها وأفاضلها أنها هي بدورها تابعة في رزقيها المادي والروحي لنفس المافيات.
فثارت مثلنا فصارت المافيات رغم كل ما تملك من وسائل التضليل والقهر قادرة على إخفاء التفقير والتجويع بسبب تجميع الثروة عند قلة والتضييق على الغالبية الساحقة في معيشتهم العادية. وقد تكون كوفيد قد ساعدت على فضح ذلك.
وبذلك فما يشبه المكر الإلهي الخير جعل الجائحة مثل 7 أكتوبر حدثين متفاعلين في إيقاظ ضمائر شعوب الغرب مثل شعوب العالم الثالث حتى وإن كان بعض من لهم ثروات بترولية ما زالوا قادرين على إخفاء الظاهرة بـما يسمونه “مكرمات” المافيات الحكمة.
المسالة الأخيرة: معركة تحييد شوكة الدول
فكل المافيات العالمية تحول دون دور الشعوب بحيل سياسية سلميا هي الخداع والإعلام المزيف وعند العجز تستعمل شوكة الدولة أي الجيش والأمن لفرض خياراتها الاستعبادية. فتأييد الشعوب معركة فلسطين بقدر غير مسبوق 95 في المائة بمعيار التظاهر مقابل 05 في المائة لصالح العدو لم يكن ممكنا لو كانت شوكة الدول في الغرب مثل شوكتها عندنا مجرد أداة للمافيات وليست حاصلة على شيء من الحياد السياسي.
وهو ما يعني أن الثورة على المافيات عندنا بحاجة إلى نفس الظاهرة حتى تلتحق الشعوب بما يحصل من ثورة عالمية لرفض الأدوات التي تلغي دور الشعوب. وهي الآن ثورة عالمية بدأت في الغرب في مستوى الشعوب.
وينبغي أن يكون مسعى الثورة العربية والإسلامية مسيرة في نفس التوجه بتشجيعها حتى تتواصل فلا يتم النكوص السريع لما سبق بداية المعركة والحصول المتدرج لتحول المواقف من السرديات الإسرائيلية والغربية: أي من “حماس = داعش” إلى “حماس= حركة تحرير”.
يوم يفهم طغاة العرب من عبيد الغرب حكاما كانوا أو نخبا أن إسرائيل والغرب إذا ربحوا هذه الحرب فإنهم لن يكتفوا بسايكس بيكو بل إن كل قطر عربي سيفتتوه ويفعلوا بأهله اكثر مما نراهم يفعلون بفلسطين وأن ما تنالونه حاليا من فتات موائده لن يبقى.
فقد رأيت الحركيين كيف يعيشون من معازل في أحواز باريس خلال مقامي فيها وكنت “أجوس” في الديار طلبا للرزق بتوزيع الإعلانات التي تكلف بها المؤسسات الطلبة مصدرا لشروط قيامهم ومقاهم: كانوا في معازل محاصرة ووضع أشبه بما نرى عليه غزة الآن وكأنهم هنود حمر الذين أفناهم رعاة البقر..