أبو يعرب المرزوقي
تحقيق النصر.. هذه مرة أخرى أخالف ‘بسيط المنطق’ الذي لا يميز بين النصر في معركة وربح الحرب التي تتألف من عدد لا يحصى من المعارك التي تتألف من جنسين ومن تفاعلهما في الاتجاهين:
- الجنس الأول هو القتال وهو تنافس بين قوتين ماديتين: ورمزها المطلق قوة السلاح دون روح.
- الجنس الثاني هو السجال الروحي وهو تنافس بين قوتين روحيتين: ورمزها المطلق قوة الروح دون سلاح.
ولما كان المطلقان مستحيلين لا توجد قوة مادية دون مقدار من الروح ولا توجد قوة روحية دون مقدار من المادة فإن:
فقدان الروح الكافية يعوضه الاطمئنان للخبث العنيف.
وفقدان المادة الكافية يعوضها الاطمئنان للإيمان اللطيف.
فيكون الأول معتمدا على حرب المناجزة والعجلة بسبب ضعف روحه.
ويكون الثاني معتمدا على حرب المطاولة والصبر بسبب ضعف مادته.
وتدارك ضعف المادة ممكن. لكن ضعف الروح لا يمكن تداركه. فمن فقد روحه يصبح عبدا للدنايا التي يصبحها العنف المعبر عن خواء الروح وفقدان القيم والانحطاط: حاله حال من يتصور البروتاز التكنولوجية بديلا من الحيوية القيمية.
وبهذا المعنى فالحرب التي تخوضها الأمة مع الصهيونية التي ترمز إليها معركة غزة شديدة الشبه مع معركة المدينة التي خاضها الرسول وصحابته مع يهودها. وما كان الإسلام لينتصر فيها لولا تقدم النصر بالمنطق الثاني على المنطق الأول:
قوة الروح غلبت قوة المادة واقتضت لتحقيق ذلك مدة أطول (13) من المدة التي تطلبها النصر المادي عليهم (اقل من المدة الأولى).
ثم تلاها فتح مكة وهزيمة الردة ليكون فتح الإسلام للعالم ممكنا. وما حصل في النشأة الأولى سيتكرر في النشأة الثانية أو الاستئناف الذي سينهي الانحطاط.
ما حدث في طوقان الأقصى اعتبره علامة على معركة الإسلام مع يهود المدينة الذي كان علامة على تمام بناء الروح التي حققت كما وصفت في مراحل النشأة الأولى:
يبقى علينا فتح مكة وهزيمة الردة والشروع في الفتح الثاني. ما حصل هو ربح معركة الرمز وهي معركة طويلة ولا يمكن الحسم فيها بربح جولة حتى وإن تضاعفت:
فقوة الروح غلبت قوة المادة: في المعركة العسكرية اسرائليا وعالميا لأن الحرب لم تخضها إسرائيل وحدها بل رمز قوة الغرب كله شاركت فيها عسكريا فتم اسقاط القوة المادية بالقوة الروحية.
وقوة الحق غلبت قوة الباطل: في المعركة القيمية إسرائيليا وعالميا لأن الحرب القيمية لم تخضها إسرائيل وحدها بل قوة الرمز الغربية كلها شاركت فيها إعلاميا فتم إسقاط كذب الباطل بصدق الحق.
لذلك فإن الجولة التي كسبتها فلسطين -ومعها العالم كله- تمثل تحولا كونيا يعسر أن تكون بداية مخاضه ضامنة لمنع محاولات إفساده بجعله مسخا يشوه النصر القيمي نوعين من التشويه:
- المرة الأولى مصدرها التشويه الذي سيقدم عليه حلفاء إسرائيل في الغرب بالتظاهر بالإسهام في حصر ما يحصل في القضية الفلسطينية لحصر النصر في تكوين محمية عربية أخرى تضاف للــ22 الحالية في الجامعة العربية: يسمونها خداعا دولة فلسطين.
- المرة الثانية مصدرها التشويه الذي سيقدم عليه عملاء الغرب من العرب بالتظاهر بالإسهام في إعادة بناء هذه المحمية المجانسة للمحميات التي تواصل تفتيت جغرافية قلب الإسلام (سايكس بيكو) أعني ما لولاه لما أنشئت إسرائيل.
وبذلك يحولون النصرين إلى هزيمة فلا يكون ما حدث في غزة بداية في كل فلسطين غاية ربح معركة تعد لربح الحرب التي تحقق شروط الاستئناف. وذلك هو الرهان المضاعف الذي أريد بيانه والذي يقتضي بيان شروط المحافظة على النصرين بمنع التشويهين:
- فالرهان الأول هو كيف نبقي على الروح التي غلبت القوة المادية التي ترمز إليها إسرائيل ممثلة للغرب كله الذي شاركها الحرب على غزة رمزا لكل المسلمين وليس لفلسطين وحدها لتجنب الحل الذي يجعل فلسطين محمية عربية تضاف إلى الجامعة العربية التي تجمع عملاء الغرب.
- الرهان الثاني هو كيف نبقي على الحق الذي غلب الباطل عالميا والذي ترمز إليه إسرائيل ومثله للغرب كله الذي شاركها الحرب الإعلامية على حماس رمزا لكل المسلمين وليس لفلسطين وحدها لتجنب النكوص إلى إعادة سريان السرديات الغربية التي تفرض ازدواج المعايير لتوطيد التبعية السابقة ومنع شروط الاستئناف الذي يفتح العالم لقيم الإسلام والقرآن.
وبين أن الرهان الثاني أعسر بكثير من الرهان الأول وهو من ثم أشبه بإعادة تجربة مكة قبل الشروع في تجربة المدينة. وبهذا المعنى فإن خوض المعركة الحاسمة مع الصهيونية ليس هذا وقتها بل لا بد من تقديم المعركة مع عملائها في الرهانين:
والأعسر هو تقديم رهان المعركة القيمية:
الكلام على فلسطين من النهر إلى البحر فيه مجازفة دالة على السخف لأنها من حيث لا يعلم أصحابها تخدم الدعاية الصهيونية والخداع الصفوي اكثر مما تخدم فلسطين ناهيك عن الإسلام. فليس بالصدفة أن الحسم مع اليهود لم يحصل إلا بعد تكون الدولة الإسلامية الكونية وبعد أن ربحت الحرب الحاسمة مع الأعراب المتحالفين ضد الإسلام في حرب الأحزاب.
لذلك فالكونية تتقدم على الخصوصية في هذه المسألة: الكونية حاليا هي القانون الدولي. المطالبة بتطبيقه حرفيا من دون ازدواج المعايير هو الانتصار الحاسم وهو إذا تم سيحقق المطلب الذي لا حاجة لذكره: فإذا طبق نص التقسيم فلن تبقى إسرائيل.
حصر الكلام في إشكالية الدولة الفلسطينية يعني إضافة محمية عربية إلى ما لدينا منها الكثير ولا فائدة حينئذ في الكلام عليها إلا بمعنى تطبيق القانون الدولي وليس بمعنى تكوين محمية عربية إضافية وهو ما يعني أن فلسطين هذه لن تكون إلا ما ترمز إليه.
فهي رمز لأمرين يتجاهلهما المدافعون عن سايكس بيكو ومن ثم على بقاء مشروع إسرائيل ومشروع إيران: تقاسم محميات سايكس بيكو:
- الأمر الأول ينتسب إلى فلسفة الدين: فبالنسبة إلى فلسفة الدين هي أرض المسرى وهي أرض القبلة الأولى. فضلا عن كونها لحين صار عاصمة الخلافة الروحية التي من دونها ما كان لدولة الإسلام أن تتواصل لتصبح إمبراطورية عالمية أعني الخلافة الأموية خلال الحرب الأهلية إلى أن نهايتها في القضاء على خروج ابن الزبير.
- الأمر الثاني ينتسب إلى فلسفة التاريخ: فبالنسبة إلى فلسفة التاريخ هي أرض كل المعارك المصيرية التي هزمت كل ما أراد غزو دار الإسلام: الصليبيون والمغوليون والنابليون والصهيونيون. لذلك فهي رمز الشرط الضمني للاستئناف إذ كل هذه المعارك تم ربحها بفضل محاولات استئنافية هي التي حافظت على الأمة إلى اليوم.
وحافظت على شرط الاستئناف الخاتم الذي سيجعل الأمة شاهدة على العالمين فتخرج البشرية من أزمة الوجودية الحالية لأنها تعيد للبشرية ما أفقدته إياه العولمة الغربية المتوحشة التي صار العالم كله يراها في هذه المرحلة المقدسة من “طوفان القدس”.
وختاما
فإن ما أخشاه هو أن يغلب الغرب وعملاؤه من العرب حل الدولتين المشوه بدلا من تطبيق قانون التقسيم على الأقل أو تكوين دولة واحدة لقوميتين تكون فيها القيم خارج سيطرة المافيات الغربية وتوابعها من المافيات العربية لأنها ستكون دولة لن يبقى فيها إلا من يمثل القيم الكونية منهم ومنا ومن ثم فيمكن اعتبار ذلك تطبيقا لدستور الرسول.
فإذا خانه اليهود فمصيرهم مصير من خانوا هذا الدستور وإن احترموه نكون قد اثبتنا أن مشكلنا ليس مع اليهود بل مع الصهيونية التي هي ليست يهودية فحسب بل هي كل المافيات العالمية حتى وإن كانت من إبداع شياطينهم الذين يغلب عليهم منطق التدمير بدل التعمير:
- محرف دين موسى بدين العجل الذي يرمز معدنه لربا الأموال وسلطان العملة البنكي على المتبادلين بدلا من أن تكون أداة تبادل ويرمز خواره لربا الأقوال وسطان الكلمة الإعلامي على المتواصلين بدلا من أن تكون أداة تواصل.
- ومحرف دين المسيح بفرض الكنسية وسيطا بين المؤمن وربه وقسم الإنسان بين ما للرب (الروح) وما لقيصر (البدن) مؤسسا للعلمانية المافياوية (بولس) في رسائله إلى الوثنيين.
- ومستكمل هذا التحريف بفرض دين العجل على كل دين وكل نظام سياسي عابدا للربا الأموال (معدن العجل) ولربا الأقوال) خوار العجل لوثر الذي شرع لربا الأموال (ماكس فيبر: الرأسمالية المتوحشة).
- والحصيلة هي العولمة الحالية التي أفسدت الزرع والضرع وجعلت الأرض التي هي مصدر معيشة البشر جهنم الفعلية بما جعلها جرداء قتلوا كل حي فيها بجعله مجرد أداة تخدم المنطق التدميري الذي صارت غزة من اكبر شواهده بحيث إن كذبتهم حول تصفيتهم الغربية المبالغ فيها أرادوا إنجازها فعليا في غزة.
- وما أخشاه إذن هو أن يتوقف الزخم الذي شرعت فيه حماس بتغليب حل الدولتين الذي يتكلم على حدود 67 لتكون محمية عربية أخرى ويتوقف الاستئناف حفاظا على سايكس بيكو. لذلك فالمطلوب ألا تتوقف المقاومة.
والحل الوحيد هو فرض احد الحلين:
إما التقسيم بمقتضى القانون الدولي الذي انشأ الدولتين أي أول قرار أممي حول فلسطين وهو النص الوحيد الشرعي مع ظلمه لكنه يبقى مرجعية. يمكن للشعب الفلسطيني أن يقبل بها بإرادته الحرة بعد أن اثبت بطوفان الأقصى أنه ليس محمية تابعة مثل الأنظمة المهزومة.
أو الدولة الواحدة بقوميتين وهو الذي سيعيد كل فلسطين بوصفها مع الحرمين مركز دار الإسلام الذي استعاد وحدة جغرافيته ووحدة تاريخه ومن ثم شروط قوته المادية وقوته الروحية.