شروط النصر هي عين شروط المطاولة
أبو يعرب المرزوقي
شروط النصر- ليس من الحكمة أن تشارك الأنظمة العربية في المعركة الجارية لنصرة الفلسطينيين حتى وإن لم يكن ما يحول دونها والمشاركة هو ما سأصفه هنا. فكل الأنظمة العربية تعتبر انتصار حماس اخطر عليها من انتصار إسرائيل وايران. وذلك لعلتين:
الأولى لأن مشاركتهم لن تحقق الهدف أي هزيمة إسرائيل حتى لو كانوا صادقين إذ ليس لهم لا البعد المادي من القدرة العسكرية ولا البعد الروحي من الشجاعة والصمود الضروريين للمطاولة.
الثانية تدخلهم من ثم سيكون عونا للعدو أكثر مما هو عون للفلسطينيين فهو لن يكون مهزلة تكرر 48 فحسب بل هو سيكون أهم مساند لدعاية إسرائيل فتساعدها إزالة أهم ما حققته المقاومة الفلسطينية.
فتدخلهم رغم عجزهم يكفي لتمرير دعاية الخطر المحدق بإسرائيل فيبرر تدخل الغرب لجعل إسرائيل معصومة من كل هزيمة مادية وخلقية ما دامت تبدو وكأنها معرضة للإفناء بهورد عربية: تحارب نصف مليار من البشر مع علمهم بأنهم كأف.
وفي هذه الحالة فحتى إيران وعملاؤها مساهمتهم حتى لو فرضناها صادقة لا تسمن ولا تغني من جوع لأن التدخل الغربي سيكون أضعاف ما هو عليه حاليا وستكون الهزيمة اشنع من هزيمة 48.
هل معنى ذلك أن الفلسطينيين ينبغي أن يبقوا وحدهم في الحرب إذا طالت حتى تنهار مقاومتهم؟
الجواب طبعا لا. وإليكم الحل بعد عرض مستنداته المستمدة من تاريخ الصراع منذ هزيمة 48. مر الإقليم بالحقبتين بعدها:
الأولى هي حقبة الانقلابات العسكرية التي اعتمد أصحابها على اتهام الأنظمة السابقة على انقلاباتهم ووعدوا الشعوب بالثأر بحجة أن ما اخذ بالقوة لا يسترد إلا بها. فزعموا إعداد العدة لذلك والجموا الشعوب بحجة لا شيء يعلو ا على المعركة. فرأينا النتيجة: هزائمهم كان أضعاف هزيمة الأنظمة التي ثاروا عليها.
الثانية حقبة “الثورة الإيرانية” أي نفس الانقلاب الذي زعمه أصحابه ثورة في إيران. ولكن هذه المرة وهم التحرير استعمار أبعد غورا إذ لا يكتفي بأخذ قطعة ارض فحسب بل القضاء على كل من لا يتشيع وجعل بلاد العرب ساحة المعركة التي تمكن إيران من استرداد إمبراطورية فارس.
فالاستعداد المقاومة -كما نراها في العراق وفي سوريا وفي لبنان وفي اليمن وحتى في إيران نفسها- ليس إلا غطاء لاسترداد دولة فارس برمز صريح هو ادعاء استرداد اربع عواصم عربية: وما حدث في سوريا خاصة وما يجري حاليا كانا الدليل القاطع على ذلك.
هل معنى ذلك أنه لا وجود لحل؟
أي إذا كان تدخل الجيوش العربية سيزيد الطين بلة:
ليس لعدم جدواه عسكريا أولا لأن الحروب لا يمكن أن ترتجل بل لا بد من الإعداد لها ولا يمكن لأمة أن تعد لحرب إذا كانت العدوات بين فتاتها اعمق من العداوة مع من ستزعم مقاومته.
ثم إن ذلك ثانيا سيؤدي إلى خيانات بلا حساب بينهم إذ كل محمية عربية سيفكر المُنَصب عليها في كرسيه قبل كرامة امته فتكون الحصيلة أسوأ من 48 لأنه سيلغي أهم ثمرات المقاومة الفلسطينية في العالم.
لأن تدخلهم الشكلي فضلا عن الخيانات -وقد حصلت في كل الحروب العربية ضد إسرائيل- يصبح أهم حجة إسرائيلية بأنها تعاني من حرب نصف مليار ضدها رغم علم الجميع أن جل المحميات تحارب معها وليس ضدها.
فما الحل إذن؟
إنه الدرس الذي يستمد من الحقبتين:
فالحقبة الأولى خسرتها الجيوش التي اخترقها العدو بمنطق إطفاء النار بالنار: أي هزيمة 48 لم يكن الاستعمار يجهل أنها ستؤدي إلى ثورة للثأر. إذن احدث الثورة المزيفة لمنع الثورة الحقيقية.
والحقبة الثانية خسرتها الشعوب التي اخترقها العدو بنفس المنطق ولكن هذه المرة لضرب عصفورين بحجر واحد: استعمال الصحوة الإسلامية السنية أولا ثم الشيعية ثانيا ضد السوفيات: فلا فرق بين ابن لادن والخميني كلاهما أنشأهما الغرب استباقا لنهوض ممكن للإسلام السني والشيعي.
ثم بعد تحقيق الغاية -سقوط السوفيات- إحياء الفتنة الكبرى بين الطائفتين وكانت الذروة في استراتيجية التدعيش: وهي ذروة المنهج الذي يطفئ النار بالنار: الخوف من عودة الإسلام برمز الخلافة يؤدي إلى استغلال هذا الرمز للحرب على الأمة كلها.
الفرق بين ابن لادن والخميني هو القرق بين العرب والفرس: الأول ساذج ولذلك فنهايته هي البديل منه أي فكر الإخوان الذي هو افسد فهم للإسلام لأنه يعتمد على تحريفه بسبب سيطرة السردية الشيعية التي تجعل الخلافة الأموية خارجة عن الإسلام والحل الإسلامي هو الرواية الشيعية في فهم الفتنة الكبرى حتى وإن برروه بخرافة السلف الصالح فكانت النتيجة في الأذهان عين ما حققه الفرس في القضاء عليها وتأسيس الخلافة العباسية بالاسم وهي شيعية في الباطن وسنية في الظاهر (ورمزها السلطة البويهية).
فاعتبار علي من السلف الصالح رغم أنه تولى الخلافة دون بيعة وغير العاصمة وورثها لابنه قبل معاوية فكان أول من مثل رمز الانقلاب الدموي على الشرعية -اغتيال عثمان- بالحلف مع القبائل الكبرى التي اتبعت خطة الباطنية واليهودية والمسيحية في الحرب على الإسلام.
هذه الدروس كافية لأن يكون العون الفعلي للمقاومة الفلسطينية السنية -وهي الوحيدة التي تعتبر مقاومة حقيقية لأن مقاومة عملاء إيران تبينت حقيقتها في العراق وسوريا واليمن.
وفيما يسمى بمقاومة وممانعة -المخمس المزعوم- هو مجرد استعداد لغزو الخليج كله وحتى المعرب العربي ولا علاقة له بفلسطين وتحرير القدس -لا تكون إلا بفهم الوضعية في كل المحميات العربية: فإسرائيل وإيران هما أداتا الاحتلال الغربي للوطن العربي.
ولعل القارئ المتسرع يرى في موقفي من حزب الله تناقضا: كيف أعيب عليه عدم التدخل في الحرب وأطالب من العرب بعدم التدخل في آن؟ والجواب أن موقفي لا علاقة له بعدم التدخل بل بالغاية من التدخل.
فهو لعدم فقدان خدعة المقاومة والممانعة التي تغطي على الهدف الحقيقي الذي تحقق في العراق وسوريا ولبنان واليمن والساعي لاحتلال الخليج كله وحتى المغرب العربي.
وليس في ذلك حكم على النوايا: فحتى لو تغاضينا عن الأفعال وهي صارخة فإن قيادات إيران أعلنت عن استرداد اربع عواصم عربية والحشد الشعبي في شمال الجزيرة والحوثي في جنوبها لا يخفون أن الهدف هو احتلالها.
والتبشير بالباطنية وصل إلى تونس بعد المغرب والجزائر ومن لا يرى ذلك فهو إما اعمى أو متعام لأنه متواطئ. ومن ثم فالأفعال والأقوال صارت متطابقة في تحديد دلالة التدخل في الحدود المتفق عليها مع الأمريكان.
ذلك أن أمريكا تستمد بقاءها في بلاد العرب من لعبة “الحزاز” بين الأنظمة العميلة بصنفيها اللذين يمثل:
بعضهم الأول المحتمين بإيران وروسيا من إسرائيل أمريكا (الهلال).
وبضعهم الثاني المحتمين بإسرائيل وأمريكا من إيران وروسيا.
وأمريكا ومثلها روسيا يلعبان دور “الحزاز” (الذي يفصل بين المتخاصمين) في معركة هدفها الأول والأخير مواصلة استعمار قلب دار الإسلام أي الوطن العربي من الماء إلى الماء.
المنطلق هو أن كل أقطار البلاد العربية -التي هي محميات- لا تختلف في شيء عن غزة: كلها محاصرة ومجوعة لأن حكامها ونخبها التابعة لحكامها من جنس حكومة عباس في الضفة: هو دعم إسرائيل وإيران ومَن وراؤهما أي أمريكا وروسيا.
كل من يريد أن يسهم في تحرير فلسطين عليه أن يحرر بلاده من هؤلاء مع تجنب ما حصل في التجارب السابقة: أي تجنب الانقلابات العسكرية وسلوك ابن لادن والخميني: ينبغي أن تكون ثورة شعبية حقيقية في كل محمية عربية بما يماثل حماس دون حرب أهلية.
فمن الغباء التفكير في تحرير غزة بالحرب على الضفة لأن النسبة ستكون بين الثوار على الأنظمة العميلة ومن معها من الشعوب عين النسبة بين حماس وفتح. فمثلما أن فتح بالتدريج ستنضم لحماس فكذلك كل من هم الآن مع الأنظمة العميلة سينضمون للثورة في كل قطر عربي.
وهذه التجربة ليست جديدة: ففي الحرب التحريرية الأولى قبل أن ينتقل الاستعمار من المباشرة إلى غير المباشر وتنصيب عملائه على البلاد العربية التي فتتت وحدتها الجغرافية ووحدتها التاريخية اللتين انطلقت منهما حرب التحرير.
تفتيت ثورة التحرير علتها هذه النقلة بعد سقوط الخلافة العثمانية والانفصال الذي تم في ما يسمى بالاستقلالات الشكلية التي حققت ما عجز دونه الاستعمار المباشر أي الحرب على مقومات وحدة الأمة.
أي مقومات الهوية أي اللغة الواحدة والتاريخ الواحد والقيم الواحدة والهدف الواحد اعني استرداد شروط السيادة وتطبيق الآية 60 من الأنفال: القوة + رباط الخيل.
فالتفتيت الجغرافي يلغي شروط القوة ورباط الخيل لأنه يلغي شروط الرعاية والحماية الذاتيتين أي شروط السيادة: ففي عالم الشهادة لا قيام لشعب حر وسيد من دون حجم كاف لتحقيق التنمية المادية (الاقتصاد) والتنمية الروحية (الثقافة).
والتنمية المادية هي شرط الرعاية المستقلة والتنمية الروحية هي شرط الحماية المستقلة. وفي غيابهما لا وجود للسيادة. وذلك هو الفرق بين الدولة السيدة والحماية التابعة. ذلك هو الحل الوحيد لتجاوز أخطاء الحقبتين.
المشكل ليس احتلال فلسطين وحدها بل الغرب لم يحتلها إلا بعد أن جل كل قطر عربي في وضعية أسوأ من فلسطين: فالشعب العربي الوحيد الذي لم يتوقف عن المقاومة منذ قرن هو الشعب الفلسطيني.
لكن بقية الشعوب العربية نجع الغرب وعملاؤه في إيهامهم بأنهم استقلوا وصاروا ذوي سيادة. وذلك هو غطاء الاستعمار غير المباشر الذي حقق فيه عملاؤه ما فشل فيه طيلة الاستعمار المباشر:
كل ما يجري في أقطار الأمة أشباه وليس حقائق: من يتصور دمية تونس رئيس دولة يتفوق عليه في الحمق والغباء والبلادة. عندما “يتبعلص” ليتكلم باسم السيادة ويمد يده للتسول من فاشية إيطاليا أو عملاء بعض العرب فهو أذل من أي مشرد في العالم.
ما ينفقه هو وتوابعه لإفساد كل شيء تعين خاصة في اللحظة التي توسطت بين نشأة وهم الاستقلال في المرحلة البورقيبية ووهم الرفاهية في عهد مافية ابن علي، وسخافة الديموقراطية التي تأتمر بمافية اتحاد الشغل ومشعوذي البجبوج (الباجي قايد السبسي) لا يمكن ألا تنتهي إلى مهزلة المهازل التي تمثلها الغاية في العبث: حكم المتقعر في خطاب السيادة مع التسول.