رعشة طفل في غزّة
ليلى حاج عمر
كلّ المجاز كاذب وعاجز عن بلوغ الحقيقة. كل النّصوص لم تستطع أن تصل إلى رعشة طفل هناك في غزة.
كلّ المعنى تبعثر أمام مدينة ثكلى فقدت أربعة آلاف من أطفالها، وأكثر. هل تصدّقون أنّنا في زمن نشاهد فيه موت آلاف الأطفال على المباشر دون أن نفعل شيئا ؟
في أزمنة مضت أبيدت شعوب في صمت مروّع، وفي غياب للصورة. احتلّ الأوروبيون أمريكا بعد مجازر ارتكبوها في حقّ الهنود الحمر، السكّان الأصليين لأمريكا، وتمّ تغيير خارطة العالم بكلّ طرق التوحّش الممكنة تحت قناع مقاومة التوحّش. بعد عشرات السنين وأكثر تمّ تصوير الإبادة في أشرطة سينمائيّة باعتبارها أمرا واقعا، من قبل الرجل الأبيض الذي يسعى فنيّا إلى ادّعاء إنسانيّة شاحبة، إرضاء لضمير باهت.
اليوم الإبادة الجديدة يتمّ نقلها على المباشر، وتغيير الخارطة يتمّ الاشتغال عليه تحت قناع الدّفاع عن النّفس ومعاداة الساميّة وبكلّ أساليب التوحّش التي لا تصدّق. أمر مروّع لا يمكن تخيّله. فعدا ردّ فعل الشّعوب الغربيّة المندّد بمجازر لا يمكن للإنسانيّة تحمّلها، فإنّ مشاهد الإبادة تتحوّل لدى الشّعوب العربيّة المنهكة والمفرغة من كلّ قدرة على الفعل، إلى فرجة يوميّة تتردّد فيها بين الشعور بالقهر ورجاء النّصر، ومع تحوّل الأنظمة والنّقابات والجمعيّات وكثير من المثقفين إلى جثث في حالة موت، فإنّ الصّورة المنقولة بكلّ استبسال ناقليها وبطولاتهم، وعلى فظاعتها لم تنجح في تحريك غضب الشارع العربي.
ما الذي أبيد لدى العربي حتّى لا يرفع قبضته في وجه أنظمته الصامتة والمهادنة والمشاركة والمتاجرة بالقضيّة ؟
ربّما هي الإبادة قبل الإبادة. لقد أبيد المعنى. معنى الحريّة في أعلى وأوسع وأعمق تجلّياته، وشاركت في ذلك كلّ الجثث المجازيّة التي تطفو الآن صامتة ومتحلّلة، من ساسة ومثقّفي وحقوقيي الغنيمة.
مع ذلك هناك يقين بأنّ الإبادة الثانية لن تحدث، لأنّ شعبا ممتلئا بالمعنى كشعب غزّة لا ينتهي. ينتهي نظام العالم المزيّف ولا ينتهي. إنّها القصّة الخارقة التي سيرويها أحفادنا، وسيصوّروها بكلّ التقنيّات الحديثة الممكنة، وبضمير متوقّد لا باهت: قصّة أهل غزّة الذين لم ينجح العالم المجنون في إبادتهم لأنّهم كانوا يحملون بين أضلعهم وفي دمائهم وأشلائهم ورود المعنى التي ستنقذ العالم.
ورود حقيقيّة لا مجاز فيها.