أبو يعرب المرزوقي
تنبيه:
هذه المحاولة لا تفهم من دون قراءة شرحي لمفهوم المعجزات التي تحصل أمام أعين الجميع فتفهمنا سر الفتوحات الإسلامية. المعجزات ليست بنزول ملائكة تحارب معنا بل بتقمص كل مجاهد ومجتهد الروح الملائكي المحقق للمعجزات في التاريخ الفعلي المشهود:
الأول يقاتل بكيانه وإيمانه.
والثاني يقاتل بفرقانه وفهم قرآنه (جاهدهم به).
ذلك هو شرط الاستئناف الذي سيفوق عصر الفتوحات. والدليل ما نراه وما هو آت. وهذه المحاولة تتمة لأختها قبلها في قناة الزيتونة التي ستكون بلغة الإنسان العادي يغلب عليها اللهجة التونسية التي هي اصفى لهجات العرب قاطبة.
المحاولة
في آخر لقاء لي مع قناة الزيتونة ذكرت أن حماس إذا صمدت شهرا فإن أمريكا هي التي ستطلب إيقاف القتال. وكانت حجتي أن الشهر كاف لبيان الخدع الخمس التي تسيطر على حكام العرب وتفسد قيم الإنسان في كل العالم.
ويمكن اعتبار هذه المحاولة مدخلا للحوار الذي أجريته مع الأستاذ عامر عياد لتحليل حصاد الصمود الذي اعده قد غير المكان والزمان وقيم حضارة الإنسان. وذلك هو تعليل العنوان شديد التركيب بين المفهومات.
لذلك فقد وجب شرح ما يحصل الآن بعد أن تجاوز صمود غزة كل المعارك السابقة بفضيلتين لم تسبق لها قط طيلة سبعة قرون أي قرون الانحطاط بين ضياع الأندلس بلا رجعة وضياع فلسطين التي بدأ استرجاعها الفعلي:
- تجاوز رد الفعل في الحرب والقدرة على المفاجأة الساحقة للعدو.
- تجاوز الحيزين: مكانا في ما يحتله العدو وزمانا بما لا يطيقه العدو.
تجاوز رد الفعل دليله أن من يرد الفعل منذ السابع من أكتوبر هو إسرائيل ومعها الغرب. والمفاجأة الساحقة دليلها فقدان العدو توازنه لأنه في محاولة رد الاعتبار فقد أهم سلاح كان يستمد منه قوته: فرض سرديته على الرأي العام الدولي فصار يخبط خبط عشواء.
فمهما ساعدته الأنظمة الغربية والخذلان العربي وتبين كذبة المقاومة التي تقودها إيران لخدمة مشروعها وتغطيتها بالكلام على تحرير فلسطين فإن شعوب العالم كلها تمكنت لشهر كامل من معرفة الحقيقة الإسرائيلية.
لا يوجد حتى في أشد المدافعين عن إسرائيل من يعجب من شعب يدعي أنه هرب من الهولوكوست يقدم على ما هو ابشع منه لأن ما حدث في الحرب العالمية الثانية حدث في أكثر من خمس سنوات وليس في شهر.
لكن الأهم من ذلك كله هو تجاوز المعركة الحدود المكانية والحدود الزمانية: فكل المعارك السابقة في غزة ظلت في حدودها مكانيا وأطولها لم يتجاوز ما جعل حزب الجعجعة يرفع الراية البيضاء رغم كونه يزعم أن حرب 2006 انتصار ليغطي عما التزم به في قرار إيقاف القتال ويخفي اعتراف عميل إيران في لبنان بأنه لم يكن يعلم أن اختطاف الجنديين الإسرائيليين كان سيؤدي إلى هجوم إسرائيل عليه: استسلم لمضمون القرار في اليوم 31. غزة لم تستسلم ولن تستسلم.
والدليل مضاعف: كونها تفعل ولا ترد الفعل وكون صمودها تجاوز المكان (عم كل فلسطين على الأقل وكل شعوب الإقليم على الأقل) والزمان (أطول مدة لأصغر فريق مسلم) جعلا صمودها يحقق اكبر هزيمة لإسرائيل: نهاية كل سرديتها حتى في الغرب.
فلأفصل هذه النتائج وهي ستكون موضوع حوار وعدت به إذا تجاوزت المقاومة الشهر وتوقعت أن أمريكا هي التي ستطلب الوقف القتال لعلتين:
السياسة الداخلية ومعركة الانتخابات الأمريكية ولا يمكن للحزب الحاكم حاليا أن يكون له أمل في ربحها فضلا عن كلفتها على الخزينة الأمريكية لأن إسرائيل تستمد كل عتادها وزادها منها.
وهذا الخسران له أسباب سياسية خارجية: ذلك أنه عدم إيقاف الحرب في أسرع وقت يعني خسران حرب أكرانيا ومعها أوروبا لأن فوضى بلاد العرب تعني خسران أوروبا لأنه بديل روسيا لتعويض أوروبا.
صحيح أن أمريكا إلى الآن لم تصرح علنا بأنها تريد وقف القتال. لكنها بدأت السعي إلى هذا الطلب بطريقتين: تخفيف الكلمة بعوض هو الهدن الإنسانية ودفع بعض بلاد الغرب للمطالبة به.
ويمكن هنا إبداء ملاحظة مهمة وهي ناتجة عن الخسران المبين لذيوع السردية الإسرائيلية في الغرب لكن أيضا لحضور المسلمين فيه: فحتى فرنسا التي هي اكثر بلاد الغرب حقدا على الإسلام فهي قد اضطرت لتجنب الحرب الأهلية في داخلها إلى طلب وقف القتال.
ولأوجز الحصاد:
- لم يبق للأنظمة العربية أي غطاء على الخذلان وخاصة بعد أن أعلنت إسرائيل على السعي لإسرائيل الكبرى فتكون هي التي محت خرافة التطبيع والإبراهيمية.
- لم يعد أي شعب عربي يخشى هذه الأنظمة من الماء إلى الماء لأن الشعب تجاوز التعاطف بالقلب إلى التعاطف باللسان والمرور منه إلى اليد آت لا محالة: فسيوجد في كل بلد عربي جنيس حماس حتما.
- والعلة تبين الخدعتين: النفخ في قوة إسرائيل كذبة. النفخ في مقاومة أدعياء الممانعين كذبة. والاهم من ذلك إسرائيل وأمريكا وإيران وروسيا فقدوا أهم ورقة في السيطرة على الإقليم: لعبة حماية بعض الأنظمة الأولين بالثانيين والثانيين بالأولين.
- بروز دور قطر إعلاميا وتركيا موقفيا مع الحذر من تجنب ما قد يؤدي إلى خسران أهم ثمرة للصمود: إنهاء أسطورة السردية الإسرائيلية أولا ثم خاصة المحافظة على شعرة معاوية مع الغرب لتجنب السيناريو الأخطر.
- ما هو السيناريو الأخطر؟ إنه ما كان يقض مضجعي: خطة شيطانية انسبها إلى أصحاب سايكس بيكو الذين يغازلون روسيا بترضيتها في ما ينتظره بوتين حتى يصبح مع الغرب ضد الصين:
تمكينه من حصة روسيا منه أي استرداد ما خسرته بيزنطة في تركيا وخاصة القسم الأوروبي والرمز الديني ليكون مزار روسي واستعادة روسيا ما قبل الثورة البلشفية: تلك علة إدخال الغواصات النووية إذا بقي بوتين حليفا لتركيا لأن من شروط هذه الخطة التهديد المطلق أي العصا التي تصاحب الجزرة.
صحيح أن هذه الخطة تبدو خيالية. لكن الناس ينسون أن إسقاط هتلر تتطلب مثلها بل ولعله أغرب منها: فروسيا لم تصمد وستالين لم يربح الحرب ضد ألمانيا من دون مثلها. كل شيء تقريبا كان مصدره أمريكا وإنجلترا.
فتكون الحصيلة هي ما فكرت فيه أمريكا لتجنب خسران حرب أكرانيا وخسران أوروبا إذا طالت الحرب وسقطت الأنظمة العربية لأن دوامها يعني أن “الحماسات” لن تبقى في حدود فلسطين بل هي ستعم محيطها شعبيا وليس بقرار من الأنظمة: وستبدأ بالأردن ومصر. ولا أفكر في لبنان ولا في سوريا ولا خاصة في اكبر أعداء الإسلام أي مليشيات العراق والحوثيين لأنهم ليسوا إلا من أدوات مشروع إيران الذي هو اخطر على العرب والمسلمين من إسرائيل.
إسرائيل تريد أرضا. هم يريدون أرضا وعرضا: لا يختلفون عن الغزو الصليبي الذي ينصر أو يهجر أو ينفي. وذلك ما فعلوه في ايران في بداية الصفوية وفي العراق وسوريا ولبنان واليمن. مع السيطرة الخفية على البحرين والكويت والإمارات وادعاء المشاركة في حماية قطر عندما حاصرها الحمى بمعية عميل إسرائيل صاحب كذبة مسافة السكة بعد الخمينية.
لكل هذه العلل صارت أمريكا تدعي الحرص على تحقيق مشروع الدولتين في فلسطين وتعارض احتلال إسرائيل لغزة بعد ربح الحرب مجاراة لموقف سخيف يتمثل في بلع جلد الفريسة قبل صيدها: إسرائيل لم تربع الحرب وتقدم مشروعا لحكم غزة.
وهم إسرائيل حتى بعد هذا الفشل هو تحقيق إسرائيل الكبرى التي رسموها على الخريطة: ذلك هو ما سيمكن العرب مهما تخاذلوا من الانتقال لـ48. فالجيوش العربية الحالية قادرة عسكريا لإزالة التفوق الجوي وهو كاف.
وهي ستضطر لذلك لأن الخارجة هذه تعني زوال أنظمتها التي تحول دون والواجب. ولا يخيفني السلاح النووي: فهو لم يعد مخيفا إلا لمن يجهل أن مالكيه في وضعية أخطر من فاقديه.
فيمكن تفجير كل مفاعلات فرنسا النووية مثلا بالصواريخ فتكون اقوى من أي قنبلة نووية. وذلك ممكن للجيوش العربية فضلا عن قدرتها على إلغاء مفعول الطيران الإسرائيلي رغم التفوق الكيفي لطيرانها. فيكفي ضرب مطارات ومصادر طاقتها ولا حاجة لمغالبتها الجوية.
ولن تستطيع ترسانة أمريكا وأساطيلها مساعدتها لأنها هي بدورها التعامل معها ممكن بنفس الطريقة لأن ثلاثة أرباع المتوسط ستكون ضدها في حالة الانتقال من الحرب المحلية إلى الحرب العالمية: من تركيا إلى المغرب حتى من باب الدفاع عن النفس إن ليس لمساندة المهددين مباشرة.
واختم الآن لأن ما يتجاوز هذه الحصيلة سيأتي ذكره في الحوار القادم مع الزيتونة هو الحوار الذي علته توقعي لما أرجح وقوعه إذا صمدت غزة شهرا. وهي صمدت اكثر من شهر والعدو يتوقع أنه بحاجة لسنة حتى ينتصر.
واعتقادي الراسخ أنه لن يستطيع الصمود شهرا آخر بل لعله في الأسبوع القادم سيرفع الراية البيضاء لأنها سينهار من الداخل بسبب ثورة الإسرائيليين على حكومتهم وجيشهم. وسيكون ذلك وسيلة أمريكا لفرض إيقاف القتال.
لا ينبغي بعد الآن الكلام مكانيا بحيث إن كلمة “غزة” لم تعد دالة بمكانها الضيق بل هي تشمل المعمورة. غزة صارت رمزا لتحول في التاريخ العالمي من حيث الأخلاق الكونية: كيف يمكن لشعب مستميت من اجل حقوقه يفرض الحق في العالم.
وذلك هو جوهر الإسلام السياسي: فالإسلام هو روح السلام الكوني الذي تؤسسه الآٍية الأولى من النساء (من نفس واحدة أي إخوة) والآية الثالثة عشر من الحجرات (التعدد بين الشعوب واختلاف الحضارات) آيات من آيات الله وهي شرط التعارف معرفة ومعروفا ولا تفاضل عرقي أو طبقي أو جنسي لأنه مقصور على التقوى.
وحدة المعمورة مكانيا ووحدة التاريخ زمانيا هما مبدآ الإسلام وهما ما صارت عليه شعوب العالم بفضل سقوط خدعتي إسرائيل والغرب ممثلا بأمريكا وإيران والشرق ممثلا بروسيا وشروع البشرية في فهم قيم ثورة الإسلام وسعيه لتوحيد البشرية حول مفهوم التعايش السلمي بين البشر الأحرار المكلفين بتعمير العالم بقيم الاستخلاف: ذلك هو الاستئناف.