نور الدين العلوي
لا أزايد على أحد، فأنا لم أنصب خيمتي بميدان لكني أرى الساحات العربية بعيدة عن ثورة غزة التحريرية، ولذلك فإني أبدأ بوصف هذا البرود الميداني بالخذلان الناجم عن قصور نضالي معيب. ومن عوارضه انتظار معجزات ربانية تريح من المشاركة، ومن عوارضه انتظار صواريخ حزب الله كمثل الإفراط في تأويل تصريح روسي أو صيني يعدل الموقف الأمريكي ويدفعه إلى التخلي عن الكيان؛ هكذا بسهولة رمي عقب سيجارة.
الشارع العربي لم يدرك حتى اللحظة تاريخية معركة غزة 2023 والاحتمالات الكامنة في نصرها، إنه شارع كسول يترقب ولا يدفع قسطه من واجب التحرير. سأحاول تفهم الأسباب وإن كنت أرى كل الاحتمالات، بما فيها محاصرة المقاومة في منطقة ضيقها وقطع تحركاتها تحت الأرض بالتدريج ودفعها إلى هجوم “استشهادي” أخير.
أنزه المقاومة عن كل تقصير
لا أحد له الحق في أن ينتصب أستاذا على المقاومة وعصبها القوي حماس ليسند لها عددا ويمارس الأستذة، لذلك فإن التقصير يقع خارج غزة، إنه في الساحات العربية وبالتحديد العربية السنية وبالأخص في مصر وشمال أفريقيا. نقول هذا لأن مناشير كسولة تتعالم في النضال والقتال والتكتيكات الحربية تنهمل علينا من كل صوب، وننظر في تاريخ أصحابها فنجدهم زعماء الكسل والتنظير ورثة اللغة الحنجورية التي استنزفت صبرنا منذ خمسين سنة.
السؤال في اللحظة هو: أين الساحات العربية وماذا عليها أن تفعل لتكون فعلا لا قولا مع غزة؟ لقد خرجت هذه الساحات إلى الشارع بأعداد أقل مما تستطيع (أو مما هو ممكن) وراعت سلامتها قبل أن تقيّم جدوى فعلها (مع كم من النقاشات السخيفة مثل أن التكبير يجعل المعركة دينية لا معركة تحرير). وكان واضحا أمام كل بصير أن تثوير الساحات يزعج الإسناد الغربي للكيان المعتدي، فهو حريص على حصر المعركة في مربع غزة وفي نيته القضاء عليه قبل أن يتحول إلى كرة لهب تدمر حلفاءه الأقل أهمية من الكيان، فهو صنعهم ويدخرهم لما بعد معركة يظن له فيها انتصارا. وكان على الساحات العربية أن تدرك ذلك وأن تستغله لخلخلة هذه الأنظمة وإرباك استقرارها في عمالتها، وفرض تحولات ديمقراطية لصالح الشعوب والتي تنتهي حتما لصالح المقاومة. هل هذا حق غزة على الساحات العربية؟ إنه أدنى بكثير من ذلك ومن حق الساحات الشعبية العربية على نخبها الحنجروية.
النجدة الكاذبة
نخوض حربا أخرى مع جماعات الشعوذة الاستراتيجية التي ترجُمنا بتمزيق الساحات عوض الاصطفاف وراءها تحت عنوان وحدة الساحات. كلما غمزنا بتأخر جبهة الشمال يقولون لنا ماذا تفهمون في التكتيكات ويلزموننا الصمت، ثم ينعتوننا بإثارة نعرات طائفية. ونرى أن من خذلان غزة تعليق أمل على هذه الجبهة أو من يمسك شكيمتها، فهو بمثابة رسالة خاطئة للمقاوم في الداخل ولجمهوره الصابر على كل أشكال الأذى. هنا أيضا ظهر لكل ذي بصيرة أن توسيع المعركة يرعب الأمريكي ويهدد دوره كحكم متسلط على المنطقة، وأن جره إلى جبهات متعددة يشتت قدراته إنها نقطة ضعف لا يرغب حنجوريون آخرون في استغلالها، وقد برعوا في لعبة الشطرنج والاحتفاظ بالرقعة.
يقول هذا الصف الحنجوري إن العدو يملك سلاحا نوويا وستكون حربا عالمية، وهي نفس الجملة التي تذرعت بها الأنظمة العربية حتى الملاصقة للكيان وتتنفس معه نفس الهواء لكي نقدم سلامة الشعوب على التحرير (وفي الخلفية سلامة العروش).. شعوب سليمة أجسادها منتهكة أرواحها، كان هذا هو المطلوب عربيا وهو مطلوب أو منصوح بها ليظل هؤلاء الحنجوريون في أوطانهم وفي منطقة التعاطف القلبي غير المكلفة سياسيا، أي لا تزعج الأمريكي ولا الكيان.
سنكتب قريبا إما مفتخرين بانتصار جبار أو متعزين بنصر مؤجل (وتراث استشهادي)، لقد كان من الشرف التليد أن حاربت غزة وحدها فانتصرت نصرا طاهرا من اللغو الطائفي ومن اللغوي النخبوي العربي فيكون نصرها لها أو تكون شهادتها لها، لكن هذا لن يبرئ المتخاذلين باسم التكتيكات أو باسم السلامة الجسدية للشعوب.
كان المطلوب فك الحصار على غزة
ندخل اليوم الخامس والعشرين منتصرين في غزة ومقهورين في عجز الساحات العربية، فلا ساحة من هذه الساحات نصبت خيمة اعتصام وأبقت جذوة الشارع حية وقابلة للالتهاب في كل لحظة، يدور حولها الشباب ويتعلم ويناقش ويستعيد التاريخ الذي أريد له أن يمحى من ذاكرة الأجيال.
لم نستهن يوما بالنضال الافتراضي وهو في المعركة، لكنه نضال يريح الأنظمة ولا يزعج السفارات المعادية، بل يقوم في ردهات كثيرة بإراحة الضمائر وتفريغ شحنات الغضب التي كانت غزة تنتظرها في الشارع فبقيت في الهواتف والحواسيب.
أطلقت المقاومة مرتين دعوة للنفير العام بالعربية، فاستجابت ساحات العالم إلا الساحات العربية. ووالله ما قصر أحد في عواصم الغرب وآسيا المسلمة حتى التي جرّمت التظاهر أول المعركة وهو نصر في ذاته، فالعالم الآن عرف ما يجري وانحاز إلى الحق الفلسطيني، ولكن أهل القضية الأصليين يتابعون معجبين وعاجزين. وقد كان يمكن خلق حركة عالمية حول فلسطين عبر إشغال العواصم العربية والمدن الكبرى باعتصامات دائمة تقتضي تضحية ببعض الكسل وقليل من عطش وجوع وصداع لا ينتهي للأنظمة المحتمية بالسفارات المعادية. لكن إذا نزهنا أنفسنا عن ممارسة الأستذة على المقاومة فلن نمارسها على الساحات، فالحق بين ووسائله متاحة والعدو وواضح الملامح.. نعم توجد أثمان لكن أين هي مما تدفع غزة؟
نختم، الساحات العربية ليست مستعدة للشهادة، وأقرأ نضالها الحنجوري بكل ألم كتخلص عاطفي مريح من خوض معركة التحرير في أقطارها، وقد بلغ بها الكسل أن عادت لترويج حديث الملائكة التي تقاتل في غزة لتريح الساحات من واجباتها..
إذا كان أحد مؤهل روحيا لرؤية الملائكة في الساحات فهو الغزاوي، لو قالها غزاوي يحمل سلاحه فإني مصدقه ولكن ذلك لن يخفف ما بي من خذلان.
عربي21