نور الدين العلوي
يعذبنا شعور بالإثم إذ نحرّض أهل غزة على الجهاد من وراء الحواسيب ثم نراهم يموتون فنصفق لانتصارات بدمهم ولا نبذل إلا قليلا من حماس المرتاحين في الظل والماء المبرد.. أقرأ الساحات العربية وأجزم أن هذه الساحات لم تدرك الأبعاد الاستراتيجية للمعركة التي انطلقت دون علمهم، فلم يستعدوا وما كانوا سيستعدون بأية خطة تضامنية ولو علموا بتوقيت المعركة. الساحات العربية تستهين بالمعركة وتجهل احتمالاتها التاريخية، لذلك تتخلف عن التضامن المطلوب وتظل غارقة في أوحال اختلافاتها التاريخية، وهذا قديم يتجدد في طبعها وفي تفكيرها.. الساحات العربية تخلفت عن الموعد التاريخي العظيم، موعد الحرية.
الساحات يحركها الإسلاميون
هذا أمر مدرك منذ الثمانينيات. يملك الإسلاميون جمهورا منضبطا يمكن تسييره في مقابل ضعف فادح في جمهور التيارات الأيديولوجية الأخرى (اليسار) الذين يميلون إلى نضال الصالونات والبيانات اللغوية غير ذات الكلفة.
تزامنت حرب الطوفان مع وجود الإسلاميين في السجون وفي المنافي في مصر كما في تونس وربما المغرب ومن تبقى منهم في الجزائر، لقد كان يمكن تنظيم مظاهرات عارمة في القاهرة تناظر مظاهرات الحشد الشعبي في العراق لكن غياب الإسلاميين عن هذه الساحات كان واضحا، ولم يحل محلهم أحد لذلك ظلت الشوارع هامدة إلا من فورة شبابية بلا قيادة في تونس خاصة. ومن الواضح أن قطيعة عميقة تتضح بين بقية جمهور الإسلاميين (الباقي على قيد الحياة) وبين تيارات اليسار، لذلك لم يلتق هؤلاء في مظاهرة ولا أراهم يفعلون وهذا الخلاف، هو أحد وجوه جهل الجميع بعمق معركة الطوفان وأبعادها.
هناك استنتاج مريح يخفف على الإسلاميين الوزر، وهو أنهم لم يغيّبوا بالقتل والتشريد إلا لمثل هذا اليوم الذي يباد فيه الفلسطيني فلا يجد الشارع العربي من يحركه ويقوده. وهذا صحيح، وقد كتبنا أن الردة على الربيع العربي أُنجزت لمثل هذا اليوم. فالقليل الذي أُنجز مثل فتح المعابر والزيارات السيادية لغزة وتسريب الأسلحة؛ بيّن الطريق/ الاحتمال للاحتلال فاحتاط بمثل السيسي وجيشه.
وهذه المعطيات العارية لكل ذي نظر لم تعلم غير الإسلاميين ضرورة فتح معركة الحريات التي تبدأ من الأقطار لتنتهي في غزة نجدة وتحريرا. هنا مفصل تحليلي مهم: لا تجزئة لمعركة الحريات، وساحات العرب هي ساحة غزة، وإلى أن يدرك العرب ذلك نخبا وشعوبا فإن غزة ستحمل وزر معركة الحرية/ التاريخ وحدها بدمها وبأرواح أطفالها الأبرياء. الشارع العربي لا يفكر في الحرية وإن كان يشتاق إليها، إنه لا يبني حركته عليها لذلك ذهب يتظاهر لرفع العتب وعاد لمراقبة الوضع أمام التلفزيونات.
طول زمن المعركة هل يعدل موقف الشارع العربي؟
إذا ضربت فأوجع وغالبا ما يكون زمن الضربة هو السبب الأقوى لوجع المضروب. لقد مرت عشرون يوما على بدء الطوفان والشارع العربي لم يضرب؛ بما يجعل سؤالنا أعلاه نوعا من البحث عن أمل لا انتظارا فعليا لتحول حقيقي. لقد فوّت الشارع الضربة إذ لم يرابط في الشوارع منذ الساعات الأولى، ولا يقولنّ لنا أحد إنه كان غافلا عن توقيت المعركة، فهذه المعركة ليست يتيمة إنما هي حلقة من سلسلة يسميها كل السياسيين معركة التحرير وهي مستمرة منذ النكبة، وقد سبق له الإخلال بمواعيد كثيرة للتضامن لأن الخطاب في واد والممارسة في واد آخر، وكانت هناك فرصة توبة وتدارك.
إن حدة القصف وتواتره وقوته تكشف رغبة الاحتلال ورعاته في سرعة الإنجاز لاستعادة وضع “طبيعي” بعد إحداث أكبر قدر من التخريب في الأرواح وفي البنى التحتية. وقد (أقول قد) يؤجل الاحتلال معركة البر إلى حين إثقال كاهل المقاومة بوزر الأرواح ويعطل قدراتها لزمن يكون فيه قد استعاد توازنه المختل. ويفترض أن تكون هذه المدة صالحة للضغط بواسطة جمهور يتحرك بقلوبه أكثر من عقوله، ووضعه في سياق معركة طويلة سيكون فيها المفاوض الفلسطيني وحيدا مرة أخرى. هذه قراءة لا أراها تصدر عن أي فصيل سياسي تونسي ولا أقرأها عند مليون متحدث في السوشيال ميديا، رغم المتابعة اللصيقة لكل ما يصدر.
إني أرى وهنا أنه تُنتظر معجزة تصدر عن الجيش المصري أو عن تدخل إيراني يغير المعادلة، وأقرأ لمن يبرر للغو الإيراني المنتشر وآخر يبرر للغياب التركي عن مجريات المعركة ويتوهم له أدوارا سرية، ولا أظن هذه الإنتظارات إلا إخفاء لخيبة كبيرة يكتمها الجميع خوفا من حقيقة قاهرة؛ ألا أحد لغزة غير جمهور الشارع العربي المسكين الفاقد للمحرك والقيادة.
لقد تغير موقف قطاعات واسعة من الشارع الغربي خاصة بعد مذبحة المستشفى وانقلبت سردية الضحية على المجرم المتباكي، ولكن هذا المحرض الإنساني لم يتلقفه الشارع العربي ليحول معه المعركة إلى معركة إنسانية تمتد إلى كل أطراف الأرض. مرة أخرى، الشارع الفاقد للقيادة والبوصلة يخسر فرصة لا يمكن أن يظفر بها ثانية.
نختصر: الشارع السياسي العربي لا يؤمن فعلا بتلازم الساحات وإن كرر ذلك في الخطابات الهوجاء، ولم يؤمن قبل ذلك بتلازم ساحات الديمقراطية لذلك صفق للانقلابات ولم يرها تغلق طريق غزة، ومثلما خسر الديمقراطية نراه يخسر الحرية له ولغيره.
لذلك وجبت النصيحة للفلسطيني أن يحمل صليبه وحده وأن يدفع من دمه ثمن وجوده الحر ولو بعد طوفان آخر، هكذا كان منذ النكبة وهكذا سيكون حتى التحرير. ربما يتعطف علينا الاحتلال لنرسل لأطفال غزة بعض الحفاظات ونلتقط صور سيلفي مع المعونة ونعود إلى لغونا المحلي. النخب التي ضحّت بحرياتها في أقطارها لن تفهم معركة الطوفان ولن تكون في مستواها، إنها معركة حرية للأحرار فقط وما أقلهم في وطن مستكين من البحر إلى البحر.
هل ظلمت أحدا؟ أنا مخزي أمام عداد الشهداء الذي لا يتوقف.
عربي21