التجييش الأمريكي ما دلالته القريبة والبعيدة ؟
أبو يعرب المرزوقي
ما أريد إثباته من تسونامي غزة غني عن الإثبات عندما نعلم رهانه: فهل أمريكا والغرب قادران على خوص ثلاثة حروب في آن؟ فمن: غرق في أكرانيا وهزم قبلها في أفغانستان لا يمكن إن يعود لمحاربة المسلمين -حتى لو اقتصر تمثيلهم عما يجري في فلسطين وما حولها- ويواصل حربه على روسيا ويبقى قادرا للتصدي لانتهاز الصين الممكن لفرصة لاسترداد تايوان بيسر.
ومع ذلك فإن من خصائص الفلسفة أنها لا تقبل بالبديهي إذا لم يكن قابلا للدليل المقنع إذ البديهي الذي لا يستدل عليه هو الراي العامي وليس المعرفة المعللة.
وأبدأ بالأسئلة التي تحتاج إلى حواب بين هل لو كان مغول الغرب -أمريكا- ما زال يثق في قدرة إسرائيل على أداء الدور الذي صنعت لأجله لواصل الاكتفاء بالمساعدة عن بعد ولعب ورقة الحكم الذي يدعي النزاهة بينها وبين عملائه من حكام العرب ونخبهم.
لكن الآن وصلنا إلى مرحلة لم يعد لتهديد إسرائيل فاعلية تخيف أحدا: يمكن أن تعيد من تريد إلى العصر الحضري لكن المستهدفين يمكن أن يزيلوها من الوجود حينها إذا بلغت المخاطرة إلى هذا الحد. فتكون الخاسرة حتى في هذه الحالة.
ونفس الشيء يقال عن التهديد الأمريكي الذي يمكن أن يفعل اكثر من إسرائيل لكنه سيمحي دوره العالمي وسيطرد مهما فعل لأن كل قواته في البحار المحيطة بالإقليم وكل قواعده فيه لن يبقى له منها شيء.
لكن التهديد له دور قياس تصميم الخصوم. لا احد يريد الوصول إلى هذه النهاية لكن من يقبل التحدي في حواسم اللحظات التاريخية هو الذي ينتصر لأن تقدير الكلفة أضافي ليس إلى مقدارها المادي بل إلى حصيلتها الخلقية والتاريخية.
لو استسلمت أوروبا لهتلر لكان يحكم العالم اليوم. لو استسلم المسلمون للاستعمار لما بقي لهم ذكر مثل الهنود الحمر. من يصمد أيا كانت الكلفة هو الذي يربح في النهاية. وإذن فالخاسر في النهاية سيكون إسرائيل وأمريكا.
لكن كلنا يعلم أن البديهيات التي لا تحتاج إلى دليل هي قناعات العامة أما الخاصة فلا تقبل إلا ما عليه دليل مقنع. ونحن لا تجهل أن جل حكام العرب عامة فيقبلون بديهية أن أمريكا مع إسرائيل والغرب هم ربهم.
ومثلهم ونخبهم منذ تفتيت الجغرافيا (سايكس ييكو) فد شرعوا في تشتيت التاريخ (المحميات) ليحولوا دون شرط المناعة (تنمية الثروة) وشروط الحصانة (تنمية التراث) والعملاء بنوعيهم:
- بعضهم يحصل على أجر من CIA وكالة المخابرات المركزية.
- وبعضهم يعتمد على يهود بلاده أكثر من اعتماده على شبعه.
- وبعضهم جيشه عميل لفرنسا واستخباراته في خدمتها.
- وبعض رجال أعمالهم في حرب دائمة على سر مناعتها المادية (قتلا للرعاية المستقلة بسبب التبعية في إنتاج الثروة المادية والرمزية).
- وبعض “مثقفيهم” في حرب دائمة على سر حصانتها الروحية (قتلا للحماية المستقلة بسبب التبعية في إنتاج التراث المادي والرمزي).
هل لو كان قائد مغول الغرب ما يزال يثق في قدرتهم على مواصلة المهام التي كلفوا بها لاكتفى بما يسمى المشروع الإبراهيمي والتطبيع مع الأنذال من حكام العرب وقبلهم سفهاء النخب.
ولول كان الغرب ما يزال واثقا من فاعلية لعبة التخويف من إيران لتدعيم التبعية لإسرائيل والتخويف بإسرائيل لتدعيم التبعية لإيران وهو ما نجح إلى حد الآن بنسبة كانت مطمئنة للغرب.
كل ذلك خير لأن الأقدار شاءت أن تحصل حرب أكرانيا فيغرق الغرب فيها ولا يستطيع حسمها واحتدت المنافسة مع الصين ليس في المحيط الهادي فحسب بل في كل مستعمرات الغرب السابقة وخاصة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
والسؤال الذي يريد له مغول الغرب حلا صار عكس ما كان يفرضه المنطق. لم يعد تأجيل الحسم مع المسلمين لأنهم عاجزون حاليا على الاستئناف والتصدي للصين وروسيا. لكن تبين أن الفصل بين المعارك شبه مستحيل.
فلا يمكن للغرب أن يوطد تفوق إسرائيل على كل الإقليم إذا كان خنوع الحكام والنخب العربية قد فشل في تحقيق الشرط الضروري والكافي لأن القضية الفلسطينية ليست عربية إلا بالجغرافيا لكنها إسلامية بالتاريخ:
لذلك فما يجري فيها له دور الصاعق الشعبي الذي يزلزل عملاء المحميات ويحيي مخلصي الثغور بسر الحياة الذي لا يبور: الإسلام. فكان لا بد للغرب من حليف جديد يتصوره قادرا على دورين:
- الأول يمكن أن يكون رادعا للصين وروسيا بحجمه وتقدمه التقني فيكون الحامي المباشر لإسرائيل: من هنا فكرة الطريق الهندية الإسرائيلية الأوروبية.
- الثاني الحسم السريع مع كل إمكانية لاستعادة شعوب الإقليم الثقة في قدرتها على الفعل بدارا وتجاوز رد الفعل البعدي. وتلك دلالة الطوفان.
ولا يوجد جيواستراتيجي فطن يجهل أن الإحاطة بالصين من اعسر الأمور من دون حسبان الحزام الإسلامي الذي لم ينضم إلى الحلف الجديد الذي بنته أمريكا للتصدي لقوة الصين في المحيط الهادي.
وهذا الحزام يكون هلال يصل بين حضوري الإسلام في آسيا من إندونيسيا إلى القوقاز بتوسط دول الإسلام الهندي والأفغاني وكلها مصالحها الصق بالصين منها بالغرب والهند.
ومثلما أن مسلمي القوقاز يتوسطون بين الصين وروسيا ويصلون بينهما وبين تركيا التي تحاول روسيا والصين إدخالها في طريق الحرير فإن مسلمي جنوب شرق آسيا يتوسطون بين الصين والهند ويفصلون بين الصين والهند المتعاديتين مع ميل إلى الصين.
لم يعد بالوسع تأجيل الحسم في الإقليم لتمكين أوروبا من الاستغناء على روسيا بإعادة استعمار الخليج اعتمادا على قوة رادعة تعوض ما خسرته إسرائيل من قدرة على الردع حتى لو أدى ذلك للتضحية بلعبة التخويف بينها وبإيران التي مالت إلى الصين وروسيا.
الآن انكشفت الخطة: أمريكا باتت مخيرة بين ترتيبين إما محاولة تأجيل الصدام مع الإقليم والإسلام كما كانت تنوي في صراعها مع الصين أو انتهاز فرصة ما حصل لإسرائيل لإنهاء وجع الرأس الذي قد يفصل أوروبا عنها لكونها لا تستطيع الاستغناء عن شرطي بقائها المادي والروحي: نهب مستعمراتها والاستفادة من محمياتها ومحميات أمريكا اعتمادا على إسرائيل.
وبهذا المعنى فإن المسلمين في الإقليم -الأقدر منهم وهم ثلاثة أي باكستان وتركيا وإيران- لا يمكن أن يقبلوا بهذه الطريق الجديدة التي تمثلها الهند إسرائيل أوروبا. وطبعا الصين وروسيا أيضا لن يقبلا بها.
أما العرب فإن الشعوب هي مع هذا الخيار والعملاء من الحكام والنخب أسقط في أيديها لأن أمريكا لم ترع فيهم إلا ولا ذمة إذ فضحتهم أيما فضيحة عندما بينت مدى خستهم وضعفهم وعجزهم حتى لذر الرماد في الأعين.
لكني واثق أن إسرائيل هي التي ستفسد هذه الخطة ليس وعيا بما يترتب على المجازفة بل لأن تسونامي طوفان الأقصى أنهى كل إمكانية لاستعادة الثقة في الجيش والأمن والنخبة السياسية عند اليهود التي غزت فلسطين والتي لن يبقى منها فيها إلا القلة بعد أن تهدأ الزوبعة.
صحيح أن فلسطينيي غزة سيعانون الكثير. صحيح أن لبنان وسوريا والأردن ومصر قد تحدث فيها هزات إذا طالت الوضعية الحالية: لكن ذلك كله لصالح الاستئناف. لأنه سيكون نهاية الخداع الإيراني والحكام والنخب العميلة وعودة الشعوب للفعل وحينها سيكون ما يحدث هو عكس 48: وذلك هو ما سيردع التجييش الأمريكي: لم يعد عندي أدنى شك بأن فجر الاستئناف قد بزغت شمسه.
لم يعد بوسع أحد إيقاف ما هو بصدد الحصول من جبر للكسر بين بداية النهضة التي كانت متجاوزة للحدود التي فرضها سايكس بيكو واستنبات إسرائيل وعودتها إلى ما كانت عليه بحيث إن الحدود صارت كالجروح التي بدأت تندمل فعادت اللحمة الروحية التي لم تغادر الشعوب.
فمن العلامات التي لا يمكن أن ينكرها أحد هو أن الشعوب الإسلامية في مجملها قد عاشت حقبة المحميات -قرن كامل- وهي في ما يشبه السبات العميق في الظاهر لكن روح الإسلام الجارية في عروق كيانهم كانت تستعيد شروط جبر الكسور التي كانت المحميات ونخبها تحاول تأبيدها بإحياء:
- النعرات العرقية.
- والنزعات الطائفية.
- والمغالطات الفكرية.
- والتحريفات السياسية.
- وخاصة الانحرافات الخلقية.
لكن ذلك كله فشل وعلامته فشل علمنة تركيا في النهاية وعلمنة تونس وهما رمزان بينان لكن ذلك حصل في كل محميات الإقليم. وآخر مراحل هذه العملية هي ما يجري في الخليج. حيث إن أصغر محمية تريد تقزيم اكبر محمية حتى يصبحا ممرا لدور الهند الذي تريد أمريكا الاعتماد عليه بعد التأكد من فشل إسرائيل ولعبة التخويفين من إيران ومن إسرائيل لإخضاع العملاء من حكام الإقليم والأذلاء من نخبه.