مقالات

عبير موسي وقضايا التبليغ: واجب قانوني أم سيرك سياسي ؟

«كما تدين تدان» حديث نبوي

عبد السلام الككلي

توجهت عبير موسي يوم 03 أكتوبر 2023 إلى القصر الرئاسي بقرطاج بصحبة محامي الحزب الحر الدستوري وأحد عدول التنفيذ لتبليغ المطالب المسبقة الواجب توجيهها إلى رئاسة الجمهورية قبل الطعن في الأوامر الرئاسية الترتيبية عدد 588 و589 و590 الصادرة في 22 سبتمبر 2023 لدى المحكمة الإدارية والمتعلقة بدعوة الناخبين وتحديد تراب الأقاليم وتقسيم الدوائر وضبط عدد المقاعد ل «انتخابات المجالس المحلية» إلا أن مصالح الأمن برئاسة الجمهورية رفضت السماح لها بالتوجه إلى مكتب الضبط المذكور بعد مطالبتها بالانتظار لساعات بحسب ما أظهره فيديو نشرته عبير موسي أمام القصر الرئاسي.

وبغضّ النّظر عن مسألة طبيعة الأوامر المطعون فيها والمتعلّقة كلها بالعملية الانتخابية هل هي ذات صبغة إدارية قابلة للطعن فيها بدعوى تجاوز السّلطة أم هي ذات طبيعة أخرى تجعلها غير قابلة للطعن فيها بهذه الصفة.؟

نلاحظ أنّ الإدارة مطالبة بتسلّم عرائض التظلّم المقدّمة إليها لتنظر فيها ولتردّ عليها إذ أن تقديم المطلب المسبق إلى الإدارة مسألة وجوبية بدونها يسقط أي طعن لدى المحكمة الإدارية متعلق بأي مقرر إداري.

عبير موسي
عبير موسي

وجوبية المطلب المسبق بين الأخذ والرد

لقد مكّن المشرّع التونسي المتعاملين مع الإدارة العمومية من حقّ طلب إلغاء قراراتها التّي يعتبرونها مضرّة بحقوقهم وأحدث لهذا الغرض المحكمة الإدارية بالقانون عدد 40 لسنة 1972 المؤرّخ في 1 جوان 1972 وخصّها حكميا بالنظر في دعاوى تجاوز السّلطة الرّامية إلى إلغاء المقرّرات الصادرة عن السّلطة التنفيذية سواء كانت مركزية أو جهوية والصادرة أيضا عن الجماعات العمومية المحلّية وعن المؤسّسات العمومية ذات الصّبغة الإدارية واستثنى الفصل 3 من هذا القانون في صيغته الأولى الصادرة سنة 1972 الأوامر ذات الصبغة الترتيبية من دعوى تجاوز السّلطة فنصّ على أنّه لا يمكن القيام ضدّها بهذه الدّعوى غيره انه اشتمل عليها الطعن بعد ذلك من خلال التنقيحات الكثيرة المجراة على الصيغة الأصلية للنص التشريعي الصادر سنة 1972.

وأوجب هذا القانون على المدّعي في دعوى تجاوز السّلطة اتّباع إجراءين في آجال محدّدة وهما متتابعان في الزمن: أوّلا توجيه مطلب مسبّق إلى السّلطة مصدر القرار وثانيا رفع الدّعوى ضدّها لدى هذه المحكمة إذا لم تستجب للمطلب الموجّه إليها.

وكان هذا المطلب وجوبيا في الصّيغة الأولى في القانون المحدث للمحكمة الإدارية عملا بأحكام الفصلين 36 و40 منه حيث يوجب الفصل 36 أن تكون عريضة دعوى تجاوز السّلطة مصحوبة بنسخة من المقرّر الإداري المطعون فيه و«بالوثيقة المثبتة لتاريخ تسجيل المطلب أو بالوصل البريدي» وينصّ الفصل 40 على أنّه لا تقبل الدّعوى ضدّ مقرّر إداري إلا إذا قدّم في شأنه مطلب مسبق للسّلطة التّي أصدرته في ظرف الشّهرين المواليين لنشره أو للإعلام به وأوجب أن تكون الدّعوى «مصحوبة بوثيقة تثبت تاريخ تسجيل أو وصول المطلب وإلاّ سقط الحقّ فيها».

والمطلب المسبّق هو تظلّم لدى الإدارة مصدرة المقرّر الإداري قبل اللّجوء ضدّها إلى النزاع القضائي والغاية منه أن تراجع الإدارة موقفها وأن تسحب القرار المشتكى منه أو أن تعدّله بما يستجيب لطلب العارض. ولقد درج فقه المحكمة الإدارية على التأكيد على الصّبغة الوجوبية للمطلب المسبّق إلى أن نقّح القانون المحدث للمحكمة الإدارية بالقانون الأساسي عدد 39 لسنة 1996 المؤرّخ في 3 جوان 1996 ففقد المطلب المسبق صبغته الوجوبية وتحوّل الى إمكانية تخضع الى رغبة المدّعي في توجيه هذا المطلب من عدمه حيث لم يعد الفصل 36 يشترط في صيغة الإطلاق أن تكون عريضة الدّعوى مصحوبة بالوثيقة المثبتة لتاريخ تسجيل المطلب أو بالوصل البريدي وإنّما اشترط تقديم هذه الوثيقة إذا وجّه المدّعي المطلب المسبّق ويكتمل الفصل 36 بالفقرتين الأولى والثانية من الفصل 37 فالأولى تنصّ على رفع دعوى تجاوز السّلطة «في ظرف الشّهرين المواليين لنشر المقرّرات المطعون فيها أو الإعلام بها» وتستعمل الفقرة الثّانية فعل «يمكن» وتنصّ على أنّه «يمكن للمعني بالمقّرر قبل انقضاء ذلك الأجل أن يقدّم بشأنه مطلبا مسبّقا لدى السّلطة المصدرة له…».

غير ان هذا القانون نقح مرة أخرى ثانية بالقانون الأساسي عدد 2 لسنة 2011 المؤرّخ في 3 جانفي 2011 فعاد بنا التنقيح الى وجوبية توجيه المطلب المسبق في دعوى تجاوز السلطة ضدّ الأوامر ذات الصبغة التّرتيبية. ولا ندري بالضبط سبب هذا التردد في التنصيص على وجوبيه المطلب المسبق من عدمه ولكن من الجائز أن هناك ترددا بين إرادة تبسيط إجراء الطعن من جهة أمام الطاعن من خلال عدم إقرار وجوبيته المطلب أو محاولة تلافى النزاع الإداري والتخفيف من الضغط على المحاكم بفتح الباب أمام إمكانية الاتفاق بين المدعي والإدارة من خلال العودة إلى وجوبيته طلبا للصلح عوض التقاضي.

قضايا التبليغ

قد يتعذّر على مدّعي الضّرر من قرار إداري تقديم مطلب مسبق بسبب بعد المسافة بين مقرّه ومقرّ الإدارة مصدر القرار مثلا أو بسبب رفض الإدارة تسلّمه منه. ويمكن له تكليف عدل منفذ بتبليغ المطلب إلى الإدارة وإذا كلّف عدلا منفّذا بتبليغ المطلب فلا لزوم أن بصحبه علما أن المحاضر التّي يحرّرها العدل المنفّذ محمولة على الصّحة ولا يمكن الطّعن فيها إلاّ بالزور.

يبيّن الفصل 8 من مجلّة المرافعات المدنية والتّجارية كيفية تسليم نظائر من المحاضر التي يبلّغها العدل المنفذّ فنصّ على أنّها تسلّم الى الشخص نفسه ويجب على العدل المنفّذ اذا لم يجده أن يسلّم نظير محضر الإعلام إلى وكيله أو إلى من يكون في خدمته أو ساكنا معه بشرط أن يكون مميّزا ومعرّفا بهويته.

يتعرّض هذا الفصل في فقرته الثالثة الى فرضية الامتناع عن تسلّم النظير ولا ينصّ على وجوب أن يتسلّم المبلّغ له نظيرا من المحضر إذ لا يجبر على تسلّمه وإنّما يوجب على عدل التّنفيذ أن يودع نظير المحضر في ظرف مختوم لدى محكمة الناحية أو مركز الأمن الوطني أو الحرس الوطني الذي بدائرته مقر الشخص المطلوب إعلامه ويوجب عليه أيضا أن يوجّه الى الشخص المطلوب إعلامه مكتوبا مضمون الوصول مع الإعلام بالبلوغ يعلمه فيه بتسليم المحضر.

ويعفي هذا الفصل في فقرته الأخيرة من تقديم بطاقة الإعلام بالبلوغ في القضايا الاستعجالية إذا تعذّر الإدلاء بها لذا تبعا لأحكام هذه الفقرة لا لزوم لأن يحضر عملية التبليغ من كلّف عدلا منفّذا بالتبليغ إلاّ إذا كان له غاية أخرى غير تبليغ عريضة تظلّم أو محضر استدعاء أو مستندات طعن في حكم.

ويميز فقه القضاء بين التبليغ الفعلي والتبليغ الاعتباري. وهذا التبليغ الأخير هي طريقة استثنائية للتبليغ لا تتخذ إلاّ في حالة استحالة التبليغ الفعلي، وتسمى هذه الطريقة بالتبليغ الاعتباري لكونها لا تحقق اتصالا مباشرا بين العدل المنفذ والشخص المطلوب أو أحد الأشخاص الذين أجاز لهم القانون التسليم في حقه. وأطلق فقه القضاء على هذه الطريقة بالإعلام القانوني “معتبرا أنّ إقرار مبدأ الإعلام القانوني بدل الإعلام الشخصي تحتّمه صعوبة التبليغ الشخصي أحيانا وتعذره في أحيان أخرى].

وتخضع إجراءات التبليغ الاعتباري إلى قواعد دقيقة يلتجأ فيها المبلغ إلى جهات إداريّة مختلفة، ويمكن تحديد طريقتين للتبليغ الاعتباري هما الإيداع والرّسالة مضمونة الوصول، وهما توجدان أحيانا مزدوجتين وأحيانا أخرى منفردتين. [1]

كوميديا سياسية

إنّ توجّه موسي إلى القصر الرئاسي رفقة العدل المنفّذ يؤكّد أن غايتها ليس تبليغ عريضة تظلّم فقد كان لها أكثر من طريقة أخرى للتبليغ كما بينا وإنّما جلب الأنظار إليها والسّعي الى مشهدية سياسية تمارس فيها دور الضحية وهو ما تعودت عليه منذ انتخابها عضوا في مجلس نواب الشعب الذي تتحمّل المسؤولية الكبرى في حلّه. وهي في كل الحالات لا تخفي الأمر بل تتبجح به علانية حين تؤكد أنها هي التي أسقطت حكم «الإخوان» وليس قيس سعيد.

ومن الواضح أن موسي تحاول بكل السبل لفت الانتباه إليها كما كانت تفعل ذلك في المجلس في مشاهد مثيرة للسخرية كأن تتجول في المجلس لابسة خوذة عسكرية وقميصا حاميا من الرصاص. كانت وقتها تخاف أن يغتالها بالرصاص وداخل المجلس نواب النهضة «الإرهابيون» (هكذا) !

كما كانت تشد الانتباه، بمكبرات الصوت والاعتصام بالمجلس واحتلال منصة الرئاسة وكل المشاهد التي «أبدعت» في صنع صورها.

كان المقصود أن ترذل المجلس وأن تمنع النواب من العمل. وكان المجلس عاجزا عن اتخاذ أي قرار ضدها فهو لا يملك في نظامه الداخلي ما يمكنه من منعها من تكرار كرنفالها اليومي الممل غير منعها من اخذ الكلمة في الجلسات العامة ثلاث مرات لا أكثر. وحتى الالتجاء مرة إلى النيابة العامة من قبل رئيس المجلس راشد الغنوشي لمعاينة ما يحث لم يسفر عن شيء.

لم تكن تعلم أن ما تفعله يوفر هدية ثمينة تقدمها لقيس سعيد للانقلاب على الدستور وحل المجلس وتهميش كل الأحزاب ومنها حزبها الذي فقد جزءا كبيرا من تعلة وجوده وهو مقاومة الإسلاميين. بعد أن صاروا هدفا لقيس سعيد نفسه.

ذهب «العدو القديم» وكان لا بد لعبير موسي من خلق «عدو آخر».. ناصرت انقلاب 25 جويلية ظنا منها أن السلطة بعد حل البرلمان ستذهب الى انتخابات رئاسية سابقة لأوانها كما طالبت بذلك غير أن مساندتها أفضت إلى زيف أحلامها.

هكذا تحتاج عبير موسي دائما إلى عدو يمكنها من مواصلة سيركها السياسي وهكذا جعلت من قيس سعيد عدوا لها في حين انه لا اختلاف بين شعبويتها وشعبويته.

فمن الواضح أن موسي العاجزة عن تقديم مشروع سياسي يجمع حولها المعارضين لانقلاب 25 جويلية وحشد الأنصار عادت الى صنعتها التي أتقنتها في المجلس أي عادت الى محترفة لكوميديا سياسية تثير سخرية الكثيرين.

هل كانت عبير موسي تقدر رد الفعل السلطة ضدها بإيقافها وتوجيه كل تلك التهم ضدها ومنها ما يحكم فيه بالإعدام إذ يتعلق «بالاعتداء المقصود منه تبديل هيئة الدولة أو حمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضا بالسلاح وإثارة الهرج والقتل والسلب بالتراب التونسي» بموجب الفصل 72 من المجلة الجزائية ؟…

لا نعتقد ذلك فهي ربما لم تتصور أن السلطة القائمة قد تكون استخلصت الدرس من الماضي. فما عجز مجلس النواب عنه عندما اخفق في منعها من الخراب الذي أحدثته فيه ربما ستنفذه السلطة القائمة حين تضع حدا لنشاطها السياسي بالشكل المشهدي الذي تعودت عليه. وفي غير ذلك لا احد يعلم الى أي مدى سيصل في معاقبته لها «درءا لشرها» الذي عبث بالتجربة الديمقراطية الغضة. ولا شك أن السلطة بعد 25 جويلية تخشي اذا استمر على السكوت عليها أن تتحول الى وجع رأس دائم كما كانت على غيره..

أخيرا من مهازل التاريخ أن عبير موسي علّمت أعداءها الحاليين كيف يتقون شر ما فعلته بأعدائها القدامى… ومثلما «يدين المرء يدان»..

هوامش

[1] قرار الدوائر المجتمعة لمحكمة التعقيب، عـ68211ـدد، 29/02/1996.

اسطرلاب

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock