حقائق من وحي “طوفان الأقصى”

رفيق عبد السلام

الحرب قاسيةٌ، ومكلفة للأرواح والعمران وكل مقومات الحياة، ولا أحد يطلبها أو يتمنّاها، ولكنها، على الجهة الأخرى، تحرّك الكثير من المياه الراكدة، وتهزّ عوامل الجمود السياسي، وتكشف حقائق كثيرة، صامتة ومغيبة في روتين الحياة اليومية، فهي كما قال ماركس “أداة التاريخ غير الواعية”، ويعني أنها من المحرّكات الأساسية في مسار الاجتماع السياسي واتجاهات الأمم والشعوب، فتعيد، تبعا لذلك، تشكيل المعطيات على الأرض بقوة النار. ويبدو أن الوضع العربي لن يخرُج عن هذه القاعدة العامة، فقد بلغ درجةً من الجمود والترهل، إلى الحد الذي لا يمكن تحريكه إلا بأحداث جلل ومن الوزن الثقيل. وربما تكون “طوفان الأقصى” الديناميت المفجّر للوضع العربي الذي تأبّى على التغيير، بسبب قوة الاحتلال المتداخل مع الاستبداد والإسناد الدولي الذي لا يتوقّف، فلا توجد قضية قادرة على تحريك المياه العربية الراكدة والآسنة، سوى القضية الفلسطينية الجامعة. وكانت هناك فرصة تاريخية مع ثورات الربيع العربي لإعادة بناء وضع يقترب إلى الحدّ الأدنى من المعقولية، ولكن مؤامرات المحيط وأمواله وإعلامه أرجعت الأمور الى ما دون المربّع الأول، وأعادت مشاعر الغضب المختلطة بالإحباط لدى الجمهور العربي الأوسع.

قبل ذلك، قال العسكري والمؤرّخ البروسي، كلاوزفيتز، إن الحرب هي استمرار للسياسة بشكل آخر، وربما من الأحرى أن نضيف إلى ذلك أن السياسة هي الأخرى استمرارٌ للحرب بشكل آخر. ويتأسّس على ذلك القول إن عملية طوفان الأقصى التي هزّت حالة الجمود المصطنعة في الساحة الفلسطينية وما حولها، ستتمخض عنها، بالضرورة، نتائج تتجاوز النطاق الفلسطيني الحصري، وتفعل فعلها في النفوس والبنيان في عموم المنطقة سنواتٍ، وربما عقودا مقبلة، فمتغيّرات كثيرة ستجري في النهر العربي والشرقي الواسع، بعد “طوفان الأقصى” وما تبعها من حربٍ تدميريةٍ انخرطت فيها إسرائيل منفلتة العقل والأعصاب.

المعركة مع دولة مسلحة حتى الأذنين ومعبأة بأيديولوجيا التفوّق الذاتي (شعب الله المختار) ستكون بالغة الشراسة والقسوة، كما أن تضارب السرديات والرؤى والمصالح الكبرى مع الضربات الموجعة وغير المسبوقة التي تلقتها دولة الاحتلال، ومن ذلك كثرة الضحايا، قد أفقدها صوابها وحولها إلى ما يشبه الوحش الهائج والجريح، وفعلا ليس من اليسير على الدولة التي تعتبر نفسها إلها أو نصف إله الشرق الأوسط، أن تسلم بهزيمة عسكرية أمام فصيل فلسطيني مقاوم لا يرتقي إلى مستوى الجيش النظامي، فالضربة الهائلة التي تلقّتها إسرائيل نتيجة فشلها الاستخباراتي وارتخاء أجهزتها الصلبة تفوق التي تلقتها في حرب أكتوبر (1973) مع مصر وسورية، وقد كان الفشل الأول أمام جيشين نظاميين ومن دولتين إقليميتين وازنتين، أما هذه المرّة فهو فشل قتالي واستخباراتي أمام مجموعات مقاومة، وفي مساحة تم تحويلها الى ما يشبه القفص الحديدي المحاصر والمسيّج بكل أنواع الأسلحة.

الواضح أن إسرائيل تحاول الخروج من مصيدة الهزيمة عبر ممارسة أعلى درجات العنف المنظم من قصف المدنيين وتخريب المباني وقطع الماء والكهرباء والغاز واستخدام الأسلحة المحرّمة دوليا لنقل الرعب إلى الطرف الآخر، كما أنها تتحرّك بدوافع الانتقام والتنفيس عن الغضب والأحقاد أكثر مما تتحرّك برؤية واضحة الأهداف والأولويات، بما جعل ألسنة قادتها تنفلت من عقالها باتجاه لغة التطهير النازي، فما معنى أن يصف وزير دفاعها، يوآف غالانت، الفلسطينيين بالحيوانات البشرية، وأن إسرائيل ستتصرف وفق ذلك، وما معنى أن يقول نتنياهو “سنضربهم حدّ الإبادة”. ولكن ذلك كله لن يغيّر من الواقع شيئا، فالهزيمة واقعة لا محالة، ومنذ ساعاتها الأولى من اقتحام المقاومة الحزام الاستيطاني المحيط بغزّة، أو ما بات يعرف بالاصطلاح العسكري الإسرائيلي بغلاف غزة، وكلما أوغل جيش الاحتلال في العنف والانتقام زاد إيغالا أكثر في خط الهزيمة.

تلقّت إسرائيل في المرحلة الأولى ضربة عسكرية مباغتة وقاسية، أفقدتها صوابها، ويبدو أنها مصرّة أن تضيف الى ذلك ضربة أخلاقية ومعنوية على مرأى ومسمع من العالم، في ظل عصر الفضائيات والرقميات التي تنقل الصور الحية إلى مختلف أركان المعمورة. وكل خطة إسرائيل العسكرية تقوم حاليا على الانتصار لغرورها والتنفيس عن أحقادها بصبّ جام غصبها على غزّة المحاصرة، قصفا وقتلا للمدنيين وتدميرا للمباني، تمهيدا للاجتياح البرّي الذي لن يكون سهلا عليها. صحيح أن الغزّيين سيعانون معاناة شديدة، وستنكّل بهم الآلة العسكرية، ولكن السؤال الأهم في كل حرب: ماذا بعد؟ ألم يدخل الأميركان بغداد بعد بضعة أيام من القتال، وقبل ذلك دخلوا أفغانستان، ولكن بماذا غادروا وكيف؟

لن يخرج العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، في نهاية المطاف، عن معادلة المحتل مقابل الخاضع للاحتلال. والحقيقة أن التاريخ لم يسجّل أن دولة محتلة فرضت إرادتها بصورة كاملة وإلى الأبد على شعب خاضع للاحتلال، وليس الفلسطينيون استثناء من هذه القاعدة العامة. ويجب أن يضاف إلى هذا، ما بيّنته معركة غزّة، من حجم الترابط والتداخل بين إسرائيل والقوى الدولية الكبرى الداعمة لها، فمنذ الساعات الأولى لطوفان القدس، تحرّكت العواصم الغربية على قلب رجل واحد، للتعبير عن مطلق التضامن والمساندة مع دولة أدمنت الاحتلال والاستيطان وانتهاك كل القرارات والأعراف الدولية، وتم تجييش مجلس الأمن لإدانة الفلسطينيين وتبرئة المحتل (وإنْ لم ينجحوا) من تبعات أفعاله واعتدائه على الأقصى وتهويد القدس وتمديد الاستيطان وقضم الأرض وإذلال الشعب، وأبحرت بعدها مباشرة حاملة الطائرات الأميركية، جيرالد فورد في مياه المتوسّط، وأضيئت واجهات مقرّات الحكومات ومواقع السيادة بالعلم الإسرائيلي، بما يبيّن، على سبيل اليقين، حجم الترابط بين الداخلي والخارجي، وأن إسرائيل ليست مجرّد مشروع محلي لأرض فلسطين، بل هي قاعدة عسكرية متقدمة في قلب الشرق الأوسط، فُرضت بقوة الحديد والنار على شعوب المنطقة، لمنع نهضتها وتقدّمها وتأبيد واقع التجزئة والتشرذم عليها، فهذا الترابط بين الداخل والخارج يبيّن حجم الرهانات الجيواستراتيجية المعلقة على دولة الاحتلال في المنطقة.

أظهرت “طوفان الأقصى” على أرض الواقع أن إسرائيل ليست بالقوّة التي تتخيّل بها نفسها، كما أن الطرف الفلسطيني ليس بالضعف والهشاشة التي ذهب في ظنها، رغم ما فرضته على الفلسطينيين، سنوات طويلة، من حصارٍ قاسٍ وقضمٍ للأرض وتهويدٍ وحصارٍ وانتهاك لـ”الأقصى” واعتداء على النساء والشيوخ، فقد دفعت إسرائيل الطرف الفلسطيني إلى الذهاب نحو الحد الأقصى بعد أن جرّدته من كل شيء، وأمعنت في التنكيل به وإهانته، تحت سلطة حكومةٍ يمينيةٍ بالغة التطرّف، كما ولّدت شعورا عميقا لديه بأنه لم يعد لديه ما يخسره في هذه المعادلة القاتلة.

ويجب أن نضيغن الوضع الدولي لا يسمح لإسرائيل هذه المرّة بالخروج في صورة البطل المنتصر في هذه المعركة. صحيحٌ أنها تلقت دعما أميركيا وغربيا غير مشروط، ولكن العالم أصبح أكبر وأوسع من الغرب، والكلّ يحاول اليوم إعادة التموقع في المنطقة من بوّابات أخطاء المنافسين والحروب والأزمات، كما أن انشغال الأميركان والأوروبيين بالحرب الروسية الأوكرانية، ثم تقدّم مهمة محاصرة الصين على أي اعتباراتٍ أخرى، تجعل من الصعب عليهم الانجرار إلى حربٍ إقليمية واسعة في الشرق الأوسط ستكون بالضرورة لصالح منافسيهم، وهذا يعني أن حالة القطبية الدولية وظهور صراعات حادّة لا تسمح للإسرائيليين وحلفائهم الأميركان بفرض شروطهم وحسم المعركة لصالحهم بصورة كاملة.

الحقيقة أن ما يغذّي إسرائيل بمقوّمات الحياة، وما يعطيها تفوّقا على العرب ودول المنطقة ليس قوّة متأتّية من عندها، ولا حتى الدعم الغربي غير المشروط فقط، بل يُضاف إلى ذلك نظام الاستبداد العربي الذي يعرف جيدا أن مبرّرات وجوده وبقائه هي حماية الاحتلال وفرض الحصار على الفلسطينيين وترويض “السكّان المحليين” على طريقة الإنتدابات البريطانية والفرنسية القريبة.

بقي أن يُشار هنا إلى أن “طوفان الأقصى” قد شكّلت مناخا سياسيا ونفسيا لا يسمح لدول التطبيع بالتقدّم في عقد الصفقات تحت غطاء خدمة الفلسطينيين، لأن وضعها سيكون هنا أشبه ما يكون بسارق ليل، وقد أنير الضوء في وجهه.

العربي الجديد

Exit mobile version