محاولة في طوفان الأقصى
نور الدين الغيلوفي
1. الأمّة جرّبت شكل الدولة الوطنية الحديثة بعد حقبة الاستعمار، وقد حكمت الدولَ العربيّةَ أنظمةٌ سياسيّةٌ مختلفةٌ. واحتُلّت فلسطين في زمن قيام تلك الدول.. كانت فلسطين، قبل ذلك، تتبع الباب العالي العثمانيّ. الدول الاستعماريّة أجهزت على دولة الخلافة العثمانية وكانت في لحظة مرض مزمن ردّها، بعد قوّة، إلى ضعفٍ، وتقاسمت تركتَها واحتلّت ما تقاسمته. بريطانيا احتلّت فلسطين وحكمتها بنظام الانتداب كما حكمت فرنسا تونس بنظام الحماية. الانتداب البريطانيّ، قبل أن يخرج، رتّب الأمر للحركة الصهيونيّة وانتهى بتسليمها فلسطين استنادا إلى وعد بلفور لتبنيَ عليها دولتها العبريّة.. فشحنت إليها يهود الدول الأوروبية وأخرجت عرب فلسطين منها تحت عنوان أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.. ليشهد العالم منذئذ خللا ديموغرافيًّا وأخلاقيا لا تزال البشرية تعاني ويلاته إلى اليوم.
2. ورث الانتدابَ البريطانيَّ استيطانٌ يهوديٌّ يتداخل فيه الدين بالعلمانية، فتارة يُنفَخ في الدين ويُجعَلُ أساسا للصراع، وقد صرّح الرئيس الأمريكيّ جو بايدن، على هامش طوفان الأقصى، بأن حركة حماس تحارب إسرائيل لأنّها يهوديّة، فنحا بتصريحه نحو الحرب الدينيّة ضدّ حركة حماس،
وتارة يخفت حضور الدين في الخطاب فيكون الصراع بين نظام استيطانيّ إحلاليّ وبين شعب يناضل لأجل تحرير وطنه. ولتجتمع كلمة المقاومين في فلسطين فقد اجتنبوا أن يجعلوا العامل الدينيّ خلفيةً للصراع، ووجدوا صيغة جامعة تقول “الدين لله والوطن للجميع”. وتتالت حركات التحرير المختلفة باختلاف خلفياتها الإيديولوجيّة.
3. الشيوعيون ساهموا في دفع الاستيطان الصهيوني في فلسطين عبر حركات سياسيّة ذات إيديولوجيّة ماركسيّة، وأدّوا دورا محترَمًا، وليس لأحد أن ينكر دور الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ولا الجبهة الشعبية القيادة العامّة ولا الجبهة الديمقراطيّة، ولا حركة فتح، ولا أن يغفل عن جورج حبش وأحمد جبريل ونايف حواتمة وأبو جهاد وأبو عمّار وأبو إياد وغيرهم. غير أنّ تلك الحركات كانت مسيَّرة عن بُعد من أنظمة عربية حاكمة، فلم تتجاوز الأسقف التي كانت الأنظمة الحاكمة تسمح بها. وقد جعلت الأنظمة العربيّة، على اختلافها، من القضيّة الفلسطينيّة مجرّد ورقة تتلاعب بها في صراعاتها البينيّة، لأجل ذلك جاء وقت اختفى فيه هؤلاء الزعماء وتبخّرت تلك الحركات ولم يعد لها غيرُ وجود رمزيّ، وحتّى الوجود الرمزي صار خافتًا. ضعفت حركات التحرير تلك بسبب ضعف الأنظمة التي تستعملها أو بسبب رفع أيديها عنها.
4. ولأنّ الطبيعة تأبى الفراغ فقد ظهرت حركة حماس من داخل ظلمات القمع المتراكبة في قطاع غزّة المحتلّ، وُلدت من رحم مدرسة الإخوان المسلمين. الإخوان المسلمون هؤلاء لهم علاقة قديمة بفلسطين، إذ كانت لهم كتائب شاركوا بها في الجهاد لاستردادها في 1948 سنة النكبة. ويروي المؤرّخون أن عناصر الإخوان سبقوا الجيوش النظامية في التصدي للعصابات الصهيونية، وكبّدوها خسائر كثيرة واستطاعوا أن يحرّروا كثيرًا من المغتصبات والأراضي التي سيطر عليها الصهاينة في وقت انسحاب القوات الإنجليزية منها.
5. لمّا فشل الشيوعيون والقوميّون في تحرير فلسطين رغم إسنادهم من قبل أنظمة حكم عربية كانت تطلق على نفسها أنظمة الصمود والتصدّي، لمّا فشل هؤلاء وخلا المجال من مقاومة في مستوى التحديات خرجت حركة حماس إلى الوجود في ديسمبر 1986 على يد مؤسسها الشيخ أحمد يس. وحماس هي اختصار لحركة المقاومة الإسلاميّة. ترى ح ما س نفسها امتدادا لجماعة الإخوان المسلمين، وقد ظهرت لتملأ فراغ المقاومة التي أكلتها أنظمة الحكم العربيّ المتنازعة. ولأنّ حماس تؤمن بضرورة تحرير كامل الأرض الفلسطينية فقد أنشأت فصيلا مسلّحا هو كتائب عز الدين القسّام الذي يخوض، اليوم المعركة ضد الاحتلال الصهيوني.
6. يبدو أن حركة الإخوان المسلمين التي كانت من بين الذين بدأوا معركة تحرير فلسطين تعود إلى معركتها الأمّ ضدّ الاحتلال الصهيوني وقد تخلّصت في مدينة غزّة من قبضة مختلِف الدول العربيّة الخانقة لكلّ نفس تحرّري، ولو أنّها كانت تنتمي إلى واحدة من تلك الدول لما نجت قياداتها من السجن والتشريد ولما كانت لهم هذه الاستطاعة التي يراقبها كلّ العالَم ولا يخفي إعجابه ولو ألبسه ثياب الغضب.
7. الذين يمنّون على حماس إقامتها في سوريا الأسد ويقولون إنّ نظامه كان يحتضنها يتناسون أنّ حماس ضدّ مشروع أوسلو، والحَضنُ لم يكن سوى حَضنٍ تكتيكيّ مناكفة من نظام الأسد لمحور أوسلو الذي يعارضه هو بدوره. ولمّا قامت ثورات الربيع العربيّ ضدّ أنظمة الحكم المختلفة انحازت حماس إلى الشعوب، وبسبب انحيازها إلى الشعب السوري ضدّ آلة قمع نظام الأسد كان عليها أن تخرج من سوريا.
8. اليوم، يتداعى الفرقاء خلف المقاومة وينخرطون في طوفان الأقصى الذي تقوده حماس الإخوانية، فترى القوميين، مثلا، يمجّدون انقلابا ينكّل “بتنظيم الإخوان العالميّ” في تونس بينما يرقصون على رصاص حماس التي تقود معركة التحرير في فلسطين كأنّه يخرج من بنادقهم. وينسون أنّ حماس جزء من التنظيم العالميّ نفسه الذي جعلوا هدف حياتهم محاربته والعمل على استئصاله.
المقاومة ما نجحت في ضرب العدوّ إلّا بفضل انسجامها، ولكنّ هؤلاء القوميّين “يقاومون” وهم في قلب النشاز. ولو أنّهم انسجموا لصحّحوا من رؤيتهم أو لتخلّوا عن الهذيان باسم قضية لا تتجاوز علاقتهم بها كوفية فلسطين يزيّنون بها أعناقهم للتظاهر بها والتقاط الصور.. وهم يصرخون “دم عربيّ واحد” كما لو أنّهم ما دخلوا مدرسة. أرأيت دارسا يمجّد وحدة الدم؟
9. أقرأ آراءً تتفاوت كمّا في شأن طوفان الأقصى ولا تتفاوت نوعا. من هؤلاء من بلغ به تطرّفُه قوله
“كلّهم دواعش. كلّهم تطرّف وجنون، قادة غزة وقادة اسرائيل (هكذا)”.
ومن هؤلاء من احتالت على العبارة فانحازت إلى هابيل القتيل (تقصد به جنود الكيان الصهيوني) ضدّ قابيل القاتل (وتقصد به مقاتلي حماس).. وقد تمثّلت يآية “لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ” القرآنيّة”.
10. يستند هؤلاء على مقولة الدين أفيون الشعوب التي قالها ماركس في سياق ثقافيّ معيّن عايشه، وبحسب فهمهم فإنّ الدين لا يمكن أن يكون سبيلا إلى تحرير الشعوب ولا إيديولوجيا للمقاومة. يطمئنّ هؤلاء إلى تلك المقولة لأنّهم قد فهموا أنّ الماركسية إنّما وُلدت ردَّ فعل على الدين، بينما هي “لم تلتفت إليه إلّا بقدر ما يلجم الإنسان عن الثورة، ولم تفتح الماركسيّة نارها على الدين إلّا بقدر ما هو أداة تضليل وتعتيم يستخدمها المسيطرون”./د. فيصل درّاج: الماركسيّة والدين.
ولو أنّ هؤلاء “تواضعوا” وقرأوا قليلًا لعلموا أنّ الدين الذي تحدّث عنه ماركس إنّما هو نتاج إنسانيّ محض وضعه المستغِلّون لتخدير المستغَلّين ولمنعِهم من الثورة.. بينما تستند حماس إلى الدين في ثورتها على الاستعمار والإمبريالية. الدين الذي تتّخذه المقاومة لها سندا لا يمكن أن يكون هو الدين الذي وجّه إليه ماركس سهام نقده في سياق مسيحيّ مختلف عن لحظتها هذه. لو أنّهم يقرأون لمرّوا، على الأقلّ بأطروحة “دين ضدّ الدين” التي كان يقول بها علي شريعتي. ولكنّهم منغلقون.
11. يبدو لي أنّ طوفان الأقصى سيكون طوفانا في كلّ شيء، وطوفانا في الأفكار. ولعلّ حماس الإخوانيّة وهي تقود المقاومة بكلّ هذا الاقتدار والصبر والإصرار والانفتاح، تفتح، فعلا، صفحة جديدة من التاريخ وتعيد مقولات التنوير الغربيّ والحداثة الوافدة إلى مربّعها الذي نشأت فيه في الزمان وفي المكان، وتردّ الأمّة إلى مربّع الدين الذي أخرجتها منه دولة “وطنيّة” احتكرت القداسة لنفسها، وأخضعت الإنسان لكهنوت أشدّ ظلمة من الكهنوت الذي خرج منه الإنسان الغربيّ ليبنيَ حداثته.
فمن أراد أن يفكّر فما عليه إلّا أن يقول:
12. “كلُّ ما عُلّمناه فاسد”.