في غياب حزام إسناد ديمقراطي للمقاومة

نور الدين العلوي

نكتب بقلوب خافقة فالعقل والقلب في غزة وأكنافها، لكننا نعود أحيانا إلى الأرض إذ يقتحمنا السؤال عن برود التعاطف العربي مع المقاومة المظفرة. نقرأ تفاعلات الناس البسطاء فنجد حماسا غير قابل للضبط، ونتابع أهل السياسة فنجد الحسابات السياسية إياها، لذلك فهم صامتون ولم نظفر حتى بتلك البيانات الخجولة. الخريطة السياسية العربية مطعون في وعيها بعقل استئصالي يخشى أن يكسب فيها الإسلاميون مجدا، فيقف السياسيون الاستئصاليون ضد المقاومة حتى لا يكسب الإسلاميون شيئا.

طوفان الاقصي

كان هذا السبب الرئيسي في تخريب التجربة الديمقراطية، ففي هذه التجربة التي وئدت في المهد بانقلابات عسكرية فتح الحاكم الإسلامي المنتخب بوابات غزة للتضامن العربي فعبرت القوافل التضامنية وعبرت حكومة تونس مثبتة ترابط الشعارين الأقدس في الثورة: الشعب يريد إسقاط النظام والشعب يريد تحرير فلسطين. في حرب غزة 2023 نقف من جديد على نفس الحقيقة ترابط قضية بناء الديمقراطية بإنجاز التحرير بقوى الشعب وإن لم يحمل سلاحا، ونعيد اكتشاف العقل الاستئصالي.

تلازم الشعارين حقيقة محسوسة

كلما نهض الناس لمعركة التحرير وقفت ضدهم أنظمة ونخب تزعم الحداثة. وهذا منذ النكبة الأولى حتى صارت الحداثة صنو القبول بالاحتلال، وعلى الأرض لا نجد إلا الرجعية ترفع السلاح المقاوم. الربيع العربي الذي رفع الشعارين قدم الإسلاميين للحكم فلم يفرقوا بين الشعارين، فظهرت خطورة الجمع للعدو ومن عاش من خدمته في الداخل، وأعني الأنظمة أولا، ولاحقا سنكتشف النخب التي تتعامى عن وضع اللا ديمقراطية وتكتفي بنضالات صوتية في الفنادق، وقد شربوا نخب موت الحاكم الإسلامي في سجنه.

وكان أن فصلت النخب الانقلابية بين الشعارين فقطعت الطريق نحو الديمقراطية ونحو التحرير، فردم شعار التحرير بانكسار المسارات الديمقراطية. إنه تحالف خياني بين الأنظمة والنخب الحداثية بكل فصائلها، والنتيجة الآن أن غزة تحارب معزولة عن عمقها العربي وحتى عن رديفتها الضفة التي يحكمها فصيل نراه تجسيدا مطلقا للروح الاستئصالية؛ وتاريخه النضالي المزعوم لن يشفع له عند الجيل الفلسطيني المقاوم ولا الأجيال التي ستولد فلا تجد أثره في المقاومة.

الصورة تتضح وهذا من فضل حرب غزة 2023، وحدها الديمقراطية في الأقطار تفتح طريق الشعوب الثائرة نحو التحرير عبر رفد المقاوم بما يحتاجه على الجبهة وبعض ما يحتاجه التنمية في الأقطار، فالجياع لا يقدرون على المساعدة.

الفرز وزمن الشعوب

حرب غزة 2023 أثخنت في العدو، ونحن نكتب في اليوم الرابع منها ونعرف أن لن تكون الحرب الأخيرة وأن الأثمان ما تزال مطلوبة، لكننا عشنا الانتفاضة الأولى والثانية وما تلاهما من حروب؛ كل حرب منها كانت تراكم الانتصارات وفي كل حرب كان الفرز يتضح فيسقط الاستئصاليون من غربال الشعوب. لقد تحرر الفلسطينيون من الزعامات المزيفة وحرروا الجمهور العربي الواسع، كل حرب منها كانت توضح للشعوب طبيعة الغرب وجوهر موقفه من الكيان الصهيوني ومن العرب، وإذا كان الصهيوني يصف العرب بالحيوانات فالغرب مجملا لا مفصلا يتعامل معهم على أنهم كذلك.

لم تتغير المعادلة التي تجعل دولا غربية تحسب حساب الجمهور العربي الثائر المقهور رغم أنها تشاهده وتسمع غليانه حتى في ملاعب كرة القدم.. هذا الجمهور “الحيواني” كما تراه ما يزال تحت سيطرة أنظمة خيانية وضعها الغرب بحيله على رأس كل دولة، قاطعا الطريق على كل محاولة لبناء ديمقراطية تحول هذا الجمهور إلى بشر له وزن وقرار على الساحة المحلية والدولية.

إنهم (الغربيون) لا ينفقون مالا كثيرا في قهر هذه الشعوب، وقد اكتفوا دوما بوضع حاكم يفكر في كرسيه ومتعه ورفاه أولاده من بعده، وقد وجدوا دوما نخبا في الداخل تبرر لهم وتستعين بهم ضد شعوبها، وغالبا ما كان ذلك يتم باسم محاربة الظلامية والرجعية.

إن الغرب هو الأقدر حتى الآن على فهم هذه الشعوب وقياس قدرتها إذا تحررت، لذلك يردمها تحت صراعات غرائزية بواسطة نخب صنعها على هواه في جامعاته غالبا؛ وكلّفها دون جهد كبير منه بجر شعوبها إلى هذه النزاعات البينية لغرق شعوبها في حضيض الغريزة.

ذات يوم كتب مثقف تونسي بفرنسية ممتازة في جريدة فرنسية تُقرأ في تونس؛ أن حركة حماس تمارس البرنوغرافيا السياسية بمحاربة دولة ديمقراطية اسمها إسرائيل. هذا المثقف الحداثي التنويري ليس صوتا منفردا، إنه توجه عام يشق كل النخب العربية من المغرب إلى بلاد الشام. وهذا التوجه/ التيار يقف الآن مع السيسي ومع انقلاب تونس بل حتى مع حفتر، ويرى في حرب غزة برنوغرافيا سياسية.

لماذا يفعلون ذلك؟ إنهم صنيعة استعمارية مهما تحدثوا حديث التقدمية، وهؤلاء هم من يخذلون غزة الآن ويمنعون المواطن المسكين من التبرع بدمه للجرحى. لكن وراء هذا الجدار السميك يتعلم الناس ويفهمون من العدو ومن الصديق، ويتعلمون الصبر من الفرز الطويل الذي يمهد لمعارك أخرى وغزوات مظفرة ستنتهي حتما بالتحرير وبناء الديمقراطية دونهم. متى يكون ذلك؟

نذكر أن عمر القضايا الكبيرة أطول من عمر أفراد وأجيال، القضايا الكبيرة لا تموت، إنها تصنع رجالها كل يوم، وبين الطفل الذي نشأ يرمي حجرا على دبابة والشاب الذي اقتحم مخزن الدبابات ودمره؛ مرّ زمن قليل من عمر جيل بما يبشر بأن المعركة لن تطول كثيرا. والثمن؟ هذا سؤال الخائفين على متعتهم أن تنقص منها الحرب قليلا وإن لم يظهروا على أية جبهة، إنه سؤال المخذلين، وصوت هؤلاء لا يصل إلى غزة وإن كان يعيق أنصار غزة من خارجها من التبرع بدمهم حتى لا ينتصر “الخوانجية” الظلاميون. هو الفرز الذي نحسمه بقانون تاريخي بناء الديمقراطية في الأقطار هو الطريق إلى المعركة الأخيرة والتحرير، فالشعب يريد تحرير فلسطين.

عربي 21

Exit mobile version