في أثر المولد

نور الدين الغيلوفي

لم ينتبه قلمي إلى مولد الرسول (ص).. كسلتُ ولم تساورني الكتابة فيه بمناسبته، غير أنّني نهضتُ من نومي أردّد بداخلي بيت أحمد شوقي البديع:
وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ
وَفَـمُ الـزَمـانِ تَـبَـسُّـمٌ وَثَناءُ

وكنت أحسبُني خاليًا من الذكرى منصرفا عنها إلى شؤون حياتي ونفسي.. فطرقَتْ، بالشعر، بابَ قلبي.
عدت إلى بردة شوقي أقرأها، فكنت بها كمن يتسلّق جبلًا في نزهة ربيع طفولةٍ.. ليس أمتع لدى الأطفال من نزهة في جبل والفصلُ ربيع والدماغ خال إلّا من اللحظة يتبعون الخطى فيها يتساقون من نشوتها الغامرة، فإن لم يعيشوها تخيّلوها واختبروا براعتهم في وصف ما تهديهم أخيلتُهم.

مع أحمد شوقي تقف على إمارة الشعر فعلًا.. قصيدته أرستقراطيّة تتهيّبها أوّلَ أمرك، فإذا أوغلت فيها زرعت لك من رقيّها ورقّتها الربيع وظلّلتك أغصان الجمال في نواحيها.
لا أظنّ أحدًا قال، قبله، مثلَ قوله:
اِسـمُ الـجَـلالَةِ في بَديعِ حُروفِهِ
أَلِـفٌ هُـنـالِـكَ وَاِسمُ طَهَ الباءُ

الحديث عن اللوح، والسياق إفراد اسم محمّد.. نُظمت أسماء الرسل وأشرف اسم محمّد على السلسلة المنظومة ليعانق اسمه اسم الجلالة مثلما يتعالق حرفا الأبجدية (ا ب) في رأس الرسالة.. وتفلت العبارة إلى معنى بعيد، كأنّ “طغراء” الأنبياء محمّدا يستند إلى ألف الجلالة ليكون هو أبَ.. الأنبياء.
وليس ذلك غريبا عن الشعراء يفتحون عبارتهم على محتمَلات المعاني.. ويبعدون من مجاهلها إلى ما لا يستطيعه غيرهم، بذلك استحقّ الشعراء أن يكون لهم غاوون يتبعونهم فيتعبونهم.

واستوقفني من بردة شوقي، وهو يخاطب محمّدَ قصيدتِه:
وَإِذا حَـمَـيـتَ الماءَ لَم يورَد وَلَو
أَنَّ الـقَـيـاصِـرَ وَالمُلوكَ ظِماءُ
فأصابني من قوله الإعياء.
يظمأ القياصر والملوك حتّى يصيبهم من ظمئهم الإعياءُ، ولأنّ الماء يحميه محمّد فإنّ هؤلاء، مجتمعين، يقتلهم العطش ولا يقدرون على الورود.. الماء لا بدّ من أن تحميَه شوكة ليكون له معنى.. الماء لا يكون إلّا عزيزا.. مائية الماء يستمدّها من شوكته التي تحميه. حتّى إذا ورده أهله شربوا من كأسه عزّا لا ذلّ فيه.. فما ظنّك بماء يحميه ماء؟
أليس محمد ماء سماء؟
محمّد مات..
وتفرّقت أمته..
وخربت من بعده ديارها حتّى انتُدبت لها الحماية وأتاها المعمّرون.. وشربوا كلّ المياه بها.. وتركوا لها، وحدها، الظمأ.. ومن وقتها وهي تجرّ
أذيال هزيمة كبرى مثل مجتمع جبال المعارك في التاريخ،
وأطمار خيبة بطول ليل معذَّب يئس من أن تطلع عليه شمس.
الأمّة الغثاء تكتفي من محمّد بغنائه وتعجز عن حماية مائه.
الحاكم العربيّ، حامي الحمى والدين، يشرف على الاحتفال بمولد محمّد ويجعل من اسمه سواكا لفمه يمضمضه من شتم شعبه.. والشعب يتغنّى بالثناء على محمّد، ومحمّد معتقل في قصر السلطان لا ينطق أحد من حروف اسمه إلّا بما تسمح به السلطة تحمي ماء محمّد من المحتفلين بميلاد محمّد..
مخافة أن يفسدوه..
ليشربه، دونهم، القياصر والملوك

ملاحظة: لمن لا يهضم شوقي، ادخل إليه من صوت أم كلثوم، فقصائده من دُرَر غنائها.. سيعطفك صوتها عليه.

Exit mobile version