نور الدين الغيلوفي
(لا جفّ دمعُ الذي يبكي على حجر) – أبو نواس –
الأمم المتقدّمة تصنع الثروة بالعمل ولا تنتظر ذهبا ولا فضّة تمطرهما السماء أو تلدُهما الأرض.
وفي البلاد المتخلّفة فقر في الجيوب وفقر في العقول. لا يقومون لعمل يعملونه ويشتكون الفاقة، والفاقةُ جبلّة تكوينيّةٌ فيهم. لا يتحدّثون عن العمل ولا يسلكون سبيلا إليه إلّا ما سدّ الرمق، لذلك تنتشر ثقافة الكنوز بين الشباب.
فلان فقير، نعرفه فقيرا. العيون منصبّة عليه من يوم ولدته أمّه، ولقد بنى له بيتا فخمًا.. فمن أين جاء بالمال ليبنيَه؟
لقد وجد، لا شكّ، كنزًا.
أين وجده؟
لا أحد يدري.
كيف وجده؟
لا أحد يعلم
ما جنس الكنز ؟ وما قيمته؟
علم ذلك عند الذي خزن الكنز أوّل مرّة، مع مراعاة فارق التوقيت والعملة.
تخيّلوا صاحب كنز ينفق كنزه في قرية نائيةٍ عيونُها منصبّة عليه كما لا تفعل عدسات المراقبة.. ألا يحتاج صاحب الكنز إلى أن يختار لكنزه مدينة يضيع وسط زحامها لكي لا يعرفه فيها أحد؟
أبناء فلان جمعوا ما لديهم وباعوا أغنامهم وعملوا في السرّ والجهر وصار لهم متاجر كثيرة. ولكنّهم يطارَدون بسؤال “من أين لهم ذلك؟”.. الضمير لا يكون إلّا غيابًا.
ليكون الجواب من جنس السؤال: لقد عثروا على كنز.
الذين يتحدّثون بمثل هذا قد اجتمعوا على نسج خرافة مكتملة الأركان فيها جواب لكلّ سؤال.
فلان بحث و”خرّج”، أمّا فلان فبحث ولم يخرج له شيء، لذلك صار ذاك غنيا وبقي هذا على فقره.
خرافة الكنوز انتشرت من سنوات بعيدة وصار لها فواعل ووظائف وأعمال مثل كلّ الخرافات.. وقد اشتهر بها غير قليل، وذهبت بأملاك بعض الذين صدّقوها وسلكوا طريقها.
الأجداد توسّلوا لحياتهم بأولياء موهومين جعلوا لهم أضرحةً ومزاراتٍ، وعاشت أجيالٌ تتعبّد تلك المزارات وتقيم بين يديها الطقوس وتذبح “الوعْدات”.. حتّى جاء الأحفاد ليفكّوا شفرات الأجداد الذين تركوا كنوزهم تحت تلك الشواهد لأجل اختبار أحفادهم، وفي سبيل ذلك عاشوا فقراء يهاجرون إلى أرض بعيدة ليعودوا منها، بعد أشهر بحفنة قمح يصنعون منها رغيفا لعشاء ليلة.
عقول الأجداد كانت كسيحة لأنّهم لم يجدوا مدرسة ترفع عنها كُساحها.. ثمّ جاء الآباء من بعدهم فبنوا المدرسة لوقاية عقول أبنائهم من إرث الكساح.. ولكنّ الأبناء دخلوا المدرسة، وخرجوا منها وقد تركوا بها عقولهم وهرعوا إلى أضرحة “فقراء” الأجداد يفتّشون عن الثروة تحتها.. وصنعوا لهم كوجيتو “احفر تجدْ”.
شعب يمشي القهقرى يمارس رياضة النكص على الأعقاب يستحقّ حاكما خيّم على الاقتصاد والسياسة ولكنّه لا يبذل جهدا أدنى ليوفّر لأبناء وطنه مناخا سليمًا ملائما لصناعة ثروة تحميهم من قوارب الموت وتقيهم من الحاجة إلى لصوص الثروات ومحتكري الموادّ.
الحليب، في فهمه، مخفيٌّ تحت الطاولة بفعل فاعل.. يخفيه المحتكرون في أوعية النكاية، كأنّ الحليب لا يفسد.
القمح موجود في مطامير التنكيل بفعل فاعلين، كأنّ القمح لا يتلف.
الدواء موجود في مخازن تحت الأرض وفوقها بفعل فواعل، كأنّ الدواء أبديٌّ لا عمر له.
حين يقصر الحاكم نشاطه على التفتيش عن الأموال الطائلة المخفيّة يمنّي الناس بها، لا تلم الناس يزجون أعمارهم في الحلم بكنز يجود به عليهم أجداد جعلوا المسافةَ بينهم فكَّ شفرة الكنز الموعود
وتركوا لذلك العلم
وزهدوا في ثمرات العمل.