النهضة في مرمى القصف دائما أبدا
نور الدين الغيلوفي
(… حتّى على الموت لا أخلو من الحسد)
لغط كبير هذه الأيّام منطلقه حوار صوتيّ بين إعلامية تونسية مهاجرة وبين رئيس حركة النهضة بالنيابة الدكتور منذر الونيسي.
سمعت الحوار.. وكان كلاما مرسلا، لا قيد له، من صوت الونيسي، ذكر فيه ما يفيد أنّ صراعا عميقا يجري بين قيادات حركة النهضة الحزب الأبرز في برّ الجمهورية التونسية.. وقد تلفّظ الرجل بما يراه كثير من الإسلاميين كلاما نابيا غير لائق بقياديّ من قيادات حزبهم.. قياديّ وطبيب دكتور وأستاذ جامعيّ. وكذلك شأن خصوم النهضة. يرون، دون وعي، أنّ قيادات النهضة منزَّهون عن كثير من الأقوال والأعمال، لذلك تراهم يهوّلون ما يسمعون منهم وما يرون. أليس أنّ كلمة قد انتهت بزعيم الحزب إلى المعتقَل؟
لا أذكر أنّني سمعت عن الدكتور الونيسي قبل أن أقرأ على صفحات الفيس بوك تدوينات له بشأن صداقة له متينة مع شخص لم أكن سمعت عنه قبل ذلك هو المرحوم عبد الكريم الراجحي.. أقول: لم أكن سمعت عن الرجلين ربّما لأنني لم أكن مطلعا على ناشطي النهضة، لتقصير منّي. لم أكن سمعت باسم المنذر الونيسي قبل مرض الراجحي، رحمه الله، وموته، لقد لفتني حزنُه على صديقه وأكبرتُه لأجله.
ولم أفتّش في مؤهّلاته التي جعلت زعيم النهضة راشد الغنوشي يختاره رئيسا لحزبه بدلا منه لمّا شعر بأنّ سلطة الانقلاب تستهدفه في شخصه وعلم أنّها لن ترتاح إلّا بالخلاص منه باعتقاله أو باغتياله.
فهمتُ أنّ اللغط المتعلق بتصريحات الونيسي له صلة بمؤتمر الحزب الذي تدفع جهة من داخله إلى عقده التزاما بنصوص القانون، بينما ترى جهة أخرى أنّ عقد المؤتمر تحت قصف السلطة والخصوم، والقيادات التاريخية رهن الاعتقال، لن يكون مجديا. ويخشى البعض من أن تكون السلطة قد اخترقت الحزب كما فعلت باتحاد الشغل وبعمادة المحامين ومنظمة الدفاع عن حقوق الإنسان. السلطة لا تعالج أمر الأجسام الوسيطة بالقمع العاري، ربّما، ولا تظهر ما بها من نزعة استئصالية، ولكنّها تعمل على نخرها من داخلها من أجل أن تحشرها في بيت طاعتها تخدمها ولا تعارضها.
أظنّ أنّ باستطاعة أبناء النهضة أن يعبُروا هذا اللغط وأن يتجاوزوا هذا المطبّ بحدّ أدنى من الوعي، ولكنّ لي على تصريحات الونيسي ، على فرض أنّه صرّح حقّا بما سمعنا، وقد قرأت إصرارا من الرجل على نفي ما نُسب إليه، لي على ذلك ملاحظات:
1. من جهة مضامين الأقوال، لا أرى غرابة في ما قاله الرجل، إذ لم يتعدّ الحديث صراعا بين قيادات الحزب على مواقع القيادة وربّما المصالح، وهذا أمر عاديّ.. النهضة حزب سياسيّ يقوده بشر وليس مجتمع ملائكة، ولا أرى معنى لكلّ هذا السجال الذي لا يخلو من اتهام للرجل.. ذلك أنّ زعيم الحزب الذي اختاره ليكون رئيسا للحزب نيابة عنه، أولى منه بالاتهام. فقد يكون من المقبول، في الأحوال العادية أن يترأس حزبا بحجم النهضة أيٌّ من قياداتها، أمّا في وضع استثنائي كالذي تشهده البلاد فالأمر يحتاج إلى رويّة أكثر وإلى تمحيص أدقّ في اختيار القائد المناسب.
قيادة السفينة في زمن الأعاصير لا تحتاح إلى أن يكون الربّان ماهرا فقط، بل تلزمه أن يكون متجرّدا متعاليا.. لا مستعليا.
الخطاب الذي سمعناه من الدكتور الونيسي يعكس شخصيّة متورّمة صداميّة من شأن قيادتها الحزبَ أن تنتهيَ به إلى التمزّق.. وأظنّ أن السلطة لا ترى أنسب من ذلك لتفكيك حزب النهضة الذي يقضّ مضجعها. وقد قرأت لبعض القواعد ما يعكس شعورا بالخيبة من حزب رأوا فيه خيارهم السياسيّ، فإذا رئيسه يتوعّد بتطهير حزبهم من مخالفين له يجلّونهم أيّما إجلال، مثلما يفعل المنقلب سواء بسواء. ما سمعته من الونيسي يذهب بي إلى أنّ روح المنقلب قد حلّت بالحزب. وإذا حلّت روح المنقلب بشيء مزّقته شرّ ممزَّق واستدرجته إلى خرابه.. وكذلك فعلت تلك الروح بالدولة والمجتمع.
2. أمّا من جهة الشكل، فأنا لم أرَ يوما أنّ الإسلاميين منزَّهون عمّا يتداوله التونسيون من أقوال تختلف الأمزجة في قبولها ورفضها. الإسلاميون تونسيون ويسري عليهم ما يسري على غيرهم، وكونهم متدينين لا يمنعهم من استعمال معاجم التونسيين النابية. الأمر عاديّ جدّا.. ولا غرابة في ما يراه البعض غريبا.
غير أنّ مخاطبة امرأة (الصحافيّة) بمثل ذاك المعجم، دون تحفّظ، يظلّ أمرا مثيرا للشكّ.. الشكّ في أن يكون الونيسي هو صاحب تلك الأقوال.. والشكّ هنا مرجعه إلى الذوق لا إلى الأخلاق. الأمر، لا يليق، ذوقيّا.
قد يتكلم رجلان بمثل ذاك الخطاب الذي قد يستدعيه السياق، أمّا أن يتلفّظ به رئيس حزب سياسيّ محافظ وهو يخاطب صحافية، دونما حاجة سياقيّة إليه، فالأمر مدعاة إلى التساؤل، وربما الشك في أن يكون الكلام صادرا عن شخص مسؤول وله من الذكاء ما يحمله على التحفّظ في خطابه وعلى حسن اختيار كلماته وتنقية ألفاظه، وهو يعي جيّدا إمكان مؤاخذته بها بشكل من الأشكال.
هوّنوا عليكم
الأمر لا يستحقّ
الإنسان خطّاء
والخطأ ليس جريمة.
تأكدوا من أنّ هذا الذي يجري إنّما هو عرَضٌ من أعراض مرض اسمه الانقلاب،
شظايا الانقلابات تصيب الجميع،
لا أكثر ولا أقلّ.