عبد السلام الككلي
أصدرت النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بتونس، الاثنين 31 جويلية 2023، بطاقة إيداع بالسجن في حقّ سامي الذيبي (لا يعنيني كثيرا انه شاعر وأستاذ الجامعي بالمعهد الأعلى للتنشيط الثقافي والشبابي ببئر الباي و «نقابي» أيضا) وجاءت بطاقة الإيداع على خلفية شكاية جزائية تقدمت بها وزارة الثقافة ضدّ سامي الذيبي بسبب «تدوينة فايسبوكية» نشرها على صفحته الرسمية. وقد تقرّر الاحتفاظ بالمشتكى به إثر سماعه من طرف أعوان الفرقة الأولى بالإدارة الفرعية لمكافحة الإجرام للحرس الوطني ببن عروس، وأحيل على أنظار النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بتونس التي أصدرت في حقّه بطاقة إيداع بالسجن وأحالته على المجلس الجناحي الصيفي لمحاكمته من أجل الإساءة إلى الغير عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وقد نشرت كثير من الصفحات نص تدوينة الذيبي التي خرج بعض المثقفين وفيهم أساتذة جامعيون على اثرها بكلمات الاستهجان والاستنكار لما قاله الأستاذ في حق وزيرة الثقافة.. لسنا هنا بصدد الدفاع عن كلمات الذيبي فبعضها (بالإضافة إلى ما قاله عن الوزيرة) فيه إسفاف لا يليق بشخص يقال انه نقابي في حين انه يتضمن اعتداء على إمرأة عاملة (الحارزة) والحال أن جوهر العمل النقابي هو الدفاع عن العمال وخاصة ضعاف الحال منهم وعن صورتهم. من الغريب أن هؤلاء الذين «حرقهم الحليب» على الوزيرة وعلى الأخلاق الحميدة وعن الكرامة الإنسانية لم يتوقفوا لا قليلا ولا كثيرا عند الحاجة لوضع شخص في السجن لمجرد كلمات قالها مهما كانت فداحتها هذا أولا وثانيا عن الحكمة في إصدار النيابة العمومية بطاقة إيداع بالسجن في حقه في حين انه يحال على المحكمة في اقرب جلسة للدائرة الجنحية اذا كان لديهم معرفة دنيا بالإجراءات طبعا.
الإيقاف التحفظي وسيلة استثنائية
ينص الفصل 84 من مجلة الإجراءات الجزائية الوارد بالقسم الرابع من المجلة المتعلق بالبطاقات القضائية على أن الإيقاف التحفظي وسيلة استثنائية ويجب عند اللجوء إليها مراعاة القواعد التالية:
يمكن إيقاف المظنون فيه إيقافا تحفظيا في الجنايات المتلبّس بها وكذلك كلما ظهرت قرائن قوية تستلزم الإيقاف باعتباره وسيلة أمن يتلافى بها اقتراف جرائم جديدة وفق ما ينص عليه الفصل 85 من مجلة الإجراءات الجزائية وما يستفاد من الفصلين هو التأكيد على أن قرار الإيقاف التحفظي هو وسيلة استثنائية غير عادية باعتبار أن الأصل والمبدأ هما الحرية ولان الأصل أيضا هي البراءة إلى أن تثبت الإدانة بحكم قضائي بات.
غير أن المشرع يمنح سلطة إصدار بطاقة الإيداع للقضاء الجالس بشكل رئيسي مثل قاضي التحقيق ودائرة الاتهام بوصفها محكمة تحقيق استئنافية وذلك بالنسبة الى القضايا الجنائية أو بمقتضى الاستئناف المرفوع لديها ضد قرارات حاكم التحقيق والى قاضي تحقيق الأطفال وقاضي تحقيق المحكمة العسكرية في الحالات التي نص عليها القانون.
واذا كانت بطاقة الإيداع إجراء استثنائيا يصدره الحكام المذكورون من القضاء الجالس فهو استثناء داخل الاستثناء بالنسبة إلى النيابة العمومية التي ليس من مهامها الأصلية وضع المظنون فيهم في السجن. فبالرجوع الى مجلة الإجراءات الجزائية لا نجد سلطة إصدار هذه البطاقة ضمن السلط الرئيسية للنيابة ووكيل الجمهورية في القسمين الثاني والرابع المخصصين على التوالي إلى وظائف النيابة العمومية ووكيل للجمهورية. فالنيابة العمومية بحسب الفصل 20 «تثير الدعوى العمومية وتمارسها كما تطلب تطبيق القانون، وتتولى تنفيذ الأحكام» أما وكيل الجمهورية بحسب الفصل 26 فمكلف بمعاينة سائر الجرائم وتلقي ما يعلمه به الموظفون العموميون أو أفراد الناس من الجرائم وقبول شكايات المعتدى عليهم. وليس له فيما عدا الجنايات أو الجنح المتلبس بها أن يجري أعمال تحقيق، لكن يمكنه أن يجري بحثا أوليا على سبيل الاسترشاد لجمع أدلة الجريمة، ويمكنه استنطاق المشبوه فيه بصفة إجمالية وتلقي التصريحات. غير أن المشرع يمنح لوكيل الجمهورية وبشكل ثانوي إصدار بطاقة الإيداع في بعض الحالات وهو ما يستشف من فصول مجلة الإجراءات 26 و 33 و 325 وخاصة 206 الذي ينص على انه «بمقتضى إحالة المظنون فيه توا على المحكمة من طرف وكيل الجمهورية بعد استنطاق بسيط في صورة الجريمة المتلبس بها وإذا لم يكن في ذلك اليوم جلسة فلوكيل الجمهورية أن يأذن بوضع المظنون فيه بمحل الإيقاف بمقتضى بطاقة إيداع ويلزمه في هذه الصورة إحضاره بأقرب جلسة ممكنة. وإذا كانت القضية غير مهيأة للحكم فالمحكمة تؤخرها لزيادة التحري لأقرب جلسة مقبلة وتؤيد بطاقة الإيداع أو إن اقتضى الحال تفرج عن المظنون فيه بضمان أو بدونه ويكون لها الحق أيضا في التخلي عن القضية ولوكيل الجمهورية في هذه الصورة أن يجري ما يراه في شأنها.
فلماذا تصدر بطاقة إيداع بالسجن في حق مواطن (لا يعنيني انه شاعر أو أستاذ جامعي فالمواطنون سواسية أمام القانون) ارتكب جرما بسيطا وهو معلوم المقر ولا يخشى منه على النظام العام اذا ترك بحالة سراح. ما هي الحاجة إلى سجنه إذا كان سيحال على المحكمة في اقرب جلسة بحسب ما يقرره الفصل 206 المذكور؟ لماذا لا يترك للمحكمة سلطة الحكم له أو عليه بحسب ما تقرره من عدم سماع الدعوى أو الحكم بعقوبة سالبة للحرية أو دون ذلك.
هل صار الاحتفاظ والإيقاف التحفظي عقوبة ضد المعارضين
مع الأسف الشديد صار الاحتفاظ في تونس والإيقاف التحفظي أشبه بالعقوبة تمارسها النيابة فلماذا مثلا إذن وكيل الجمهورية بإصدار بطاقة إيداع في السجن في حق الصحفي زياد الهاني يعد الاحتفاظ به ؟ لماذا لم يقع الإبقاء عليه في حالة سراح حتى تقوم النيابة العمومية بأبحاثها ومنها التساخير الفنية على الفيديو الذي أثيرت بسببه الدعوى العمومية ضده وهو ما لم تقم به النيابة قبل إصدار بطاقة الإيداع بحسب ما توفر من معلومات حول القضية. ومن الأكيد أن الإفراج عن الهاني بعد 48 ساعة هو قرينة تقطع بعدم وجاهة قرار الاحتفاظ… أما اقتياد الصحفي لفرقة الأبحاث على عجل في نفس يوم كلامه في احدى الاذاعات الخاصة بتنقل 10 أعوان لمنزله فهو مثير لكل الشكوك. فهل تتعلق المسالة بمجرم خطير يخشى منه الاستعصاء أو الهرب ؟
واذا كان لوكيل الجمهورية أن يجتهد في تقرير مآل الشكايات والإعلامات التي يتلقاها أو التي تنهى إليه. إما بحفظها لعدم كفاية الأدلة أو بإحالتها على التحقيق في ما يخص الجنايات أو على المجلس الجناحي في ما يخص الجنح بعد جمع أدلة الجريمة غير ان ما يلاحظ هو السرعة القصوى التي تمارسها النيابة في بعض القضايا تحقيقا وإحالة في حين أن عشرات القضايا الأخرى المتعلقة بنفس التهمة أي الثلب تبقى مركونة في الرفوف اذا قدمت ضد المدافعين عن النظام. فهل تسري جريمة الثلب فقط على المعارضين أو للدفاع عن السلطة القامة؟
كلمات الى المتباكين على الاخلاق الحميدة
الى أولئك المتباكين على الأخلاق ومنهم زملاء في الجامعة أو أصدقاء (لا أريد أن اسميهم) أقول هل تعلمون أيها السادة أن الثلب وهتك الأعراض تحول الى سياسة دولة ؟ هذه الدولة صارت «تُسيرها اليوم ميليشيات فايسبوكية» بحسب ما صرح به رئيس نقابة الصحافيين في ندوة صحفية يوم 1 أوت 2023 بمناسبة قرار سجن الصحفية شذى بن مبارك وهو إيقاف اعتبر الجلاصي أن فيها «تشفيا وتنكيلا وليس هناك أي مبرر قانوني أو نصف شبهة تستوجب إيقافها مُجددا ؟
لن نتوقف هذه المرة طويلا عند مسؤولية السلطة السياسية القائمة عن خطاب الثلب والتشهير والكراهية الموجه ضد شخصيات عامة معارضة أو غير موالية للنظام القائم. فلقد فعلنا ذلك في مقال سابق [1] ولكن لنذكر المتباكين على الأخلاق أن خطاب الانحطاط والثلب والتشهير صار سياسة دولة. فهذا الخطاب صار منتشرا اليوم في تونس بشكل غير مسبوق (لم نعرفه حتى مع صحافة المجاري في عهد بن علي) وأدى إلى حالة انفلات غير مسبوقة قوامها الثلب والتشهير والاعتداء على شرف الأشخاص والعائلات أزواجا وأبناء وأصهارا وأقارب قريبين أو بعيدين دون رادع. فهذا متزوج «في الحرام» والثاني لواطي والثالث سكير والرابع مرتش والخامس سارق والسادسة زانية والسابع إرهابي متستر والثامن تاجر مخدرات والتاسع إسلامي مندس والعاشر غواصة تتحرك في الأعماق بهدف نسف الدولة من الداخل وهلم جرا من هذه الأوصاف الذي تغدقها بسخاء صفحات موالية للسلطة وصحافيون ومحامون يدعون الدفاع عن تونس لان النظام القائم أنقذها من «العشرية السوداء».
ولا شك شك أن رئيس الجمهورية قد اعتمد منذ توليه الحكم سياسة شيطنة خصومه باستخدام خطاب يحمل الدعوة إلى العنف في مواجهة المعارضة والمعارضين في أكثر من مناسبة، فمرة يصفهم بأنهم «مخمورون»، ومرة أخرى يرميهم «في مزبلة التاريخ، فمكانهم القمامة»، أو يصفهم بأنهم «مأجورون وعملاء للخارج»، أو هم «مثل خلايا سرطانية يجب مواجهتها بالكيماوي». وكثير كثير من هذه النعوت التي من الصعب جمعها في هذه الورقة المحدودة فقد توزعت على خطبه على مدى أكثر من ثلاث سنوات ولا تزال.
كما تعود رئيس الجمهورية منذ توليه السلطة في 2019 توجيه شتى التهم ضد جهات لم يكن يسميها بادئ الأمر وهي في كثير من الأحيان تهم غامضة كما أن المتهمين غامضون. تعوّد الرئيس أن يشير إليهم بضمير الجمع الغائب «هم» الذي لا يحدد أشخاصا بذواتهم وإنما يشتمل على الجميع، وما على المستمع إلا أن يحدد بنفسه من المقصود بالكلام في عملية تأويل غدت منذ بداية حكم قيس.
وبطبيعة الحال لا تتحرك النيابة العمومية إذا ما وصلتها شكايات في الغرض ضد أشخاص بعينهم أو صفحات فبسبوكية تدعي الدفاع عن خيارات رئيس الجمهورية. وإذا ما باشرت التحقيقات فان الملف يبقى مركونا ولا يصل أبدا الى الإيقافات التي تعرفها قضايا أخرى في سرعة البرق أو إلى المحكمة أما اذا وقع تتبع بعض الأشخاص أو الصفحات مثل ما وقع مع صفحة «سيب صالح» فلأسباب أخرى لا تتعلق بالتهمة في ذاتها بل بصراعات ليس هذا مجال الحديث عنها.
أخيرا والى أنصار الأخلاق الحميدة أقول أن حماية هذه الأخلاق تستدعي شجاعة المواجهة في كل الحالات سواء كانت مناصرة للسلطة أو منددة بتجاوزاتها… لدي إحساس – ليس من طبعي الميل الى الأحاسيس في مقالاتي ولكن فليسمح لي القارئ بهذا التجاوز هذه المرة – أن هؤلاء المدافعين عن الأخلاق لا غاية لهم إلا الدفاع عن السلطة دفاعا موضوعا في غلاف جميل من نبل المشاعر ورفعة الأخلاق… وما أظن الأمر كذلك.
هامش
[1] على هامش بيان جمعية القضاة: هل للسلطة السياسية مسؤولية في انتشار خطاب هتك الأعراض في تونس ؟ بقلم عبدالسلام الككلي اسطرلاب 8 جوان 2023ا