اختلاف

نور الدين الغيلوفي

– تأمّلات تتداعى –
سأتحدّث في موضوع الاختلاف من جهة ما أرى، لا من جهة المتفلسفة.. أنا لست متفلسفا ولكنّ لي أفكارا يأتي بها التداعي.
نختلف؟
علام نختلف؟
ما هذا الذي نسمّيه اختلافا؟

قبل البدء، لاحظ أنّنا نتحدّث عن نحن.. وما نحن سوى ضمير جمع.. وليس يُجمع إلا ما يجتمع على صعيد ما.. من ذلك اجتماعُنا الذي منه اختلافُنا.. اللغة تصرّ على أن تجمعنا وإلى اللّغة مرجِعُنا.. (( نا ))
ما الذي يجعلك لا تبدي تعاطفا لك مع مظلوم، مثلا، إلّا بعد أن تنوّه باختلافك معه، فتقول “رغم اختلافي معه.. أتضامن معه”؟

كأنّك، وأنت تقول ذلك، ترغم نفسك على أمر لا تريده، إنّما هو النفاق والتظاهر بما ليس فيك.. وكأنّ الأصل في الاختلاف أن يكون سببا إلى التدابر وداعية تحارب ومدعاة للتشفّي.. فإذا تعاطف مختلفان رافقهما في تعاطفهما “الرغم”.. كأنّ المتعاطِف مع من كان خارج عصبيّته لا يتعاطف إلّا مرغَمًا.. وتعاطُفُ المرغَم لا معنى له ولا خير فيه.

الذين يقولون ذلك لا يفهمون الاختلاف ولا يعترفون بالمُخَالف على الحقيقة، ولكنّ أمورا فوق إرادتهم تضطرّهم إلى التعاطف مع من خالفهم، وتعاطُفهم محضُ خطاب والخطاب بدوره مجروح.. تجرحه “رغم”.

الاختلاف، أيها السادة، إناثا وذكورا، قاعدة اجتماعيّة ضروريّة لا يكون مجتمع إلّا بها.. وحدها القوالب الجاهزة تأتي، من المصنع، متماثلة.. بل يصعب أن تتماثل.

ثمّ، إنّه لا بدّ من الاختلاف وإن وشى البصر بالتماثل.. يكفي أن ترى شيئين اثنين لتقول إنّهما مختلفان، فما ظنّك بإنسانين بملمحين مختلفين وبمزاجين مختلفين وبذوقين مختلفين وبفكرين مختلفين، وببصمتين مختلفتين تُرَدّ إليهما هويتان مدنيتان مختلفتان؟

الاختلاف أصل والتشابه استثناء. إذا تشابهتَ مع أحد فسيكون أحدكما تابعا والآخرُ متبوعا ولا يمكن أن يتناظر رأسان ويتسالما إلّا بأن يتنازل بعضٌ لبعض.. إذن، لا معنى للتشابه بين البشر.. التشابه لا يصنع لُحمة.
ولو أنّك وضعت في قدميك خفّين متماثلين يمنة أو يسرة لما استقام لك المسير.. التوازن يأتي من الاختلاف وبه تكون الحركة.

نحن نختلف في كلّ شيء، ولذلك وُجدنا. نختلف الذكرَ عن الأنثى فتتهاوى القلوبُ في مهاوي الاختلاف ويكون التجاذب ومن التجاذب حياة.

نرى مشهدا واحدا بعيون مختلفة فتختلف الرؤية من عين إلى أخرى.. وبذلك تختلف الصورُ المخزَّنةُ بعضُها عن بعض رغم أنّ المرجعَ المرئيَّ كان واحدا.. ولكلّ امرئ ما رأى.

نسمع الأغنية نفسَها فألتذّ أنا لسماعها بينما ترى أنت فيها نشازا.. ولكلّ امرئ ما سمع.

أنت تجد فتؤمن، وذاك حقّك وأنا لا أجد ما تجد فأكفر، وذاك شأني. فلماذا أسمح بأن أسمّيَ نفسي كافرا، اعتدادا بعقلي وفهمي، وأنقم منك أن تصفني بما أصف به نفسي؟ ألستُ قد اخترتُ أن أكفرَ بما اخترتَ أنت أن تؤمن به؟

لقد نزلنا، إذن، دون العقل درجة.. وامتنع إمكانُ التفاهم بيننا واستحال الاختلاف الذي بدأنا به حديثنا.

نختلف في الفكرة ونختلف في التعبير عنها لأنّها تقع من كلّ واحد منّا بما لا تقع من الآخر.

الحياة بأسرها نصّ مُلغِزٌ ذو أبعاد شتّى، ونحن قُرّاء. أليس لكلّ قارئ منّا أفُقٌ في القراءة وله أهدافٌ ممّا يقرأ وسبيلٌ إلى الفهم وطريقة للإفهام؟

إنّه لا معنى لاختلاف ندعو إليه ونكتب عنه ونفصّل الأقوال فيه ونحاضر به، حتّى إذا خالَفنا أحدٌ إلى رأي رأيناه رميناه بكلّ قبيحة وأخرجناه من المِلّة.. ولا فرق بين قبيلة وقبيلة في هذا.

ما أوسع الاختلاف وما أضيقَ المِلل.. والضيّق لا يسع واسعا.

ذاك هو الاختلاف الذي لا تكون حياةٌ دونه.. ولن يستقيم اجتماعٌ مع عدم التسليم به قاعدةً للوجود داعيةً إلى التعارف وسبيلا إلى المعرفة ومدخلا إلى العرفان بجميل الخَلق.

الوجود جمال
والجمال
تعدّدٌ
واختلافٌ.

Exit mobile version