نور الدين الغيلوفي
1. أوّلا، أعلن توبتي من الانحياز إلى الصيف ضدّ الشتاء.. أعرف أنّ الشتاء مرهق لا يمرّ إلّا بعد أن تدوسنا عجلاتُ برده الثقيلة وتستوطننا منه أمراض مزمنة تدمننا لا تزول أعراضُها منّا،
وأعترف، بعد كلّ هذا العمر، أنّ الصيف لا يستحقّ الانحياز إليه. ولكنّني أقرّ، الآن، وأنا بكامل وعيي، بأنّني قد بلغت من الفهم ما يكفي لأتّخذ قرارا بعدم الانحياز..
أنا لا أعبر إلى الفصول من باب الحبّ، بل من باب الإكراه وما أجد عليه نفسي محمولا على ما لا أختار.. نعيش كامل أيّام أعمارنا لا نختار منها ما يوافقنا ولا نترك ما لا يسرّنا.. الأيّام تمرّ بنا وعلينا حتمَ أنوفنا وتسير فينا كما تريد هي لا كما نريد نحن.
2. الصيف والقيظ والهاجرة وجميع المفردات المجتمعة حول معنى الحرّ الشرس، هذا الذي يطارد بسطوته حتّى الطيور في السماء ويحول دون إمكان طيرانها لأنّ الشمس قد اتّخذت قرارا صارما صادما بأن تسكن في كلّ السماء وتحتكرها موطنا لها لتبسط منها سلطانها على أرضنا والحياة.
3. كلّ تلك المفردات بأثقالها تشهدها إذا جئت جنوبَنا المعذَّبَ من تحت ومن فوق. الشمس تطلع على قرانا والمدائنِ تنفث غلًّا يرفع ثمن الظلّ المقلَّص ويجعل للماء النادر مقاما لا يفهمه إلّا عطشان برّح به العطش فباع نصف حياته لقاء شربة ماء تقيه سَورة العطش الممضّ في الصيف الرهيب، أمّا نصفها الباقي فيأخذه منه الشتاء بأمراضه إذا أدركه الشتاء. فإذ نجوتَ من ضربة شمس الصيف لم تفوّتك قسوة زمهرير الشتاء.
4. إذا غرّبتَ (سرتَ غربًا) في جنوبنا رأيت كيف ينصبّ العذابُ يَنصِبُ خيامه على أرضنا ويدقّ أوتاده فيها بدءا من قريتي التي إليها نسبتي وحنينُ العطش القديم.. تخيّلوا نضوب الماء في موسم الحرّ المعذِّب.. في الصيف يتحالف علينا الماء والكهرباء يغادران معا قريتنا ليقضيا عطلة الصيف على شاطئ البحر البعيد..فلا ماء لنا نشربه ولا كهرباء نوقف به سطوة الحرّ.. أوعيتنا فارغة لا ماء فيها وأجهزتنا عاطلة لا طاقة تغذوها. يزيدونك في الحرّ درجة ليزيد العطش فيك حدّة.
5. محبوسون نحن في قريتنا، تغادرنا الفصول ولا تعود إلينا إلّا قليلا حتّى نظلّ على قيد الأنفاس نصلح للإحصاء في سجلّات الدولة الوطنيّة الرؤوم.
6. سافرت، في عزاء صديق، إلى قبلّي مرورا بقريتنا فشاهدت طفولتي بين أسراب السراب عند أوّل مذاق العطش المربّي الذي مرّ بي.. وجدلت جبال عمري منه.
7. على جنب الطريق بقايا بعير يبدو أنّ سيّارة صدمته قبل مدّة بقيت منه عظام تحلّق حولها أفراد من القطيع الذي كان فيه، يشمّون ريحه كأنّهم يمارسون طقسا جنائزيّا لا يفهمه غير من عُلّم منطق الإبل ترى أحوالها من نظرات عيونها ومكتوم أنينها.. الإبل تختزن الحنين تستعين به على العطش المشتمل.. تحمل فيها ماءها وتختزن كتلة أحزان الصحراء، حتّى لقد قيل في مأثور الرعيان: الجبال لا تلتقي والجمال تَنسى.. “الجبال ما تتلاقاش والجمال ما تنساش”.. ومن غادره النسيان استوطنه الحنين وغالبا ما يكون الحنين مخزون أحزان.
8. ذكّرني القطيع على الطريق بما كنت أراه عند عين قريتنا.. كان رعاة الإبل يستدرجونها في بعض المواسم إلى قريتنا تشرب عند عين مائنا وتَقيل.. نرقب رعاة الإبل كما لو أنّهم مخلوقات من مجرّة أخرى يسوسون إبلا نرها في ذراها فنصغر في حضرتها.. نمرّ بها بكامل الخشية ومطلق التقديس.. تمضي الإبل وتبقى منها الذرى في الأذهان.. ورطانة الرعيان.
9. الساعة لم تتعدّ العاشرة صباحا.. الوقت صبح والشمس في هيلمانها العظيم تسوط كلّ حيّ يسعى في الطريق.. كأنّ الناس صاغوا برامج أيّامهم على إيقاع الشمس الهادرة في سماء تجامع أرضا فتركوا المجال وفرّوا إلى مساكنهم مخافة التحطّم بين جبلين..
قديما تعلّمنا أنّ الجمل يستحي فلا يجامع أنثاه على مرأى من الناس ومسمع.. ومثلما يخلو الجمل بناقته تخلو الشمس بالأرض في صيف قرانا بناتِ الصحراء.. فيترك الناس لهما العراء.
10. الشمس في الجنوب تفرض حالة الطوارئ على الجميع إذا طلعت. ترى المدينة قليلًا السعاةُ بها كأنّ شمسها قد صرخت في الجموع بحظر الجولان.
“يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم”.
11. الدولة في قرانا البعيدة غائبة طوال السنة إلّا من أزياء الحرس والشرطة الوطنيين عند مدخل المدينة ومخرجها يحصون أنفاس الناس بها من الشتاء إلى الصيف مخافة أن تخنقها الشمس إذا دنت من أرضنا واستعمرتها واخترقت الأدمغة تفور فيها..
فترتبك منها سجلّات الإحصاء.
ما أشرس الشمس
ما أبلد الدولة.