“قروض بـ 420 ألف مليار بلا فوائض” وما قبلها
كمال الشارني
أولا، لا يجوز صحفيا: “420 ألف مليار”، مليار ماذا؟ دينار؟ مليم؟ دولار؟ فلس متاع جحا؟ la monnaie des singes أو فلوس لعبة المونوبولي؟
ثانيا، صحفيا: عملة البلاد التونسية هي الدينار، وقتها يصبح هذا الرقم بحاجة إلى الخيال لا غير، أما إذا كان بالدولار فهو يخرج عن السيطرة أصلا وندخل في الهذيان الجماعي وحكايات التحيل والوقاعة التي تحولت في إلى رسالة بريد الكتروني عن أرملة جنرال في دولة أفريقية اختارتك بإشارة إلهية لتهريب 20 مليون دولار من بلدها على أن تأخذ نصفها ثمن نزاهتك، لا تستغرب فثمة تونسيون دفعوا عشرات الآلاف من الدنانير جريا وراء ذلك، آخرها رسالة قدمها لي صديق من “الحاج أحمد سيكو سيسي بوباكار” يعلمه فيها أنه رأى في المنام أنه يقف على كنز بـ 60 مليون دولار في بيته لكن النحس والسحر يمنعانه من استخراجه، الصحافة التونسية تصدق ذلك وتنشره في صفحاتها الأولى على أنها أخبار وتستحق أن نعطيها معنى،
حسنا، من باب العزاء، فإن الفضائح المهنية في وسائل الإعلام ليست جديدة، وقديما قرأنا أن رئيس تحرير في صحيفة أزاهي شيمبون اليابانية التي تطبع وقتها 11 مليون نسخة يوميا، انتحر على طريقة “هيراكيري” الشنيعة التي تقوم على تمزيق البطن بسكين يابانية حادة والنزف حتى الموت في محاولة لاسترداد شرفه المهني لأن أحد المحررين كان يخدعه طيلة أعوام بنشر أخبار قديمة على أنها جديدة، لكن مسألة الشرف المهني تختلف من شعب إلى آخر، أما موقع “رئيس الحرير” فهو نفسه في اليابان أو بنغلاديش أو ناميبيا أو الولايات المتحدة أو تونس، حيث، حسب نص الاتفاقية المشتركة الملحقة بمجلة الشغل، يجب أن يكون قضى في احتراف مهنة الصحافة معدل 17 عاما، حاملا للأستاذية أو ما يقابلها، دون أن يتعرض إلى أية عقوبة مخلة بالشرف المهني وهو يتقدم في سلم الارتقاء والكفاءة المهنية حتى يصبح حارس القيم المهنية وقوانينها ويتقن إدارة فرق التحرير في العمل اليومي وفي الأحداث الكبرى، وحتى ينظر من طرف عينيه غضبا لمن يقدم له مقالا بعنوان: “قروض بـ 420 ألف مليار بلا فوائض” ثم يرمي عليه مقاله: “برى ألعب بعيدا عن الصحافة يعيش ولدي”، لأنه إذا كان المجنون يأكل ويبة شعير، رئيس التحرير لن يعطيها له، ثم إن الصحافة قد أعادت اختراع نفسها منذ أزمة السبعينات بالاختصاص المهني حيث يصبح صحفي الاقتصاد والمالية مثلا خبيرا تكون مقالاته مرجعا للسياسيين والمستثمرين والدول لما له من علاقات ومصادر معلومات ورؤية وخبرة وقدرة على sythese، تلك الماكينة الجبارة التي ترحي المعلومات وتخرج منها بمعلومات جديدة تكون في حد ذاتها عناوين، يسميه خبراء الصحافة في العالم: “القدرة على إعطاء معنى للأحداث”، لو أعطيت هذا العنوان إلى أي صحفي مختص في الاقتصاد أو المالية العمومية، لاختار نشره في صفحة الحوادث وقضايا الإجرام والتحيل،
حسنا أيضا، إن كل المؤسسات الإعلامية تعمل على صيد المواهب الصحفية والاستثمار فيها لأجل المستقبل إلا في برّ تونس، منذ أن خرج التحرير الصحفي من المحررين إلى صاحب المؤسسة الذي يعتقد عادة أنه بإمكان “إلي يجي أن يعمل إلي يجي” وأن الصحافة ولاء لصاحب المؤسسة وسماع كلام وتعليمات لذلك يتم الاستثمار في الكرانكة بدل الصحفيين، وأنه يمكن شراء الصحفيين بربع دجاجة، وحين طالبنا في بداية الألفية بفصل الإدارة عن التحرير، قال لنا أحدهم: “هذا بالدبابات، سيكون مثل ربيع براغ” الذي انتهى بـ108 قتلى وأكثر من 500 قتيل من المدنيين ضحايا الحرية وربط هذه الحرية نفسها بالدم والموت، النتيجة: عدد الصحفيين من ضحايا هذا الوضع أكبر من أي بلد آخر، والضحية الحقيقية هي الصحافة وحقيقة ما يحدث وقدرتنا على إبرام عقد بين المواطن والصحافة التي أصبحت تبيع له إنتاجا مسموما فاسدا وبسوء نية عادة، النتيجة الأخطر هي لجوء الناس إلى وسائل إعلام أجنبية تسوق لمشاريع عملاقة، ليس أقلها تحويل الديموقراطية نفسها إلى لعبة سامة، تذكروا ما قامت به “كامبريدج أناليتيكا” في الانتخابات الأمريكية التي صنعت ترامب ولا تزال تعمل، لا تقتل أسود بلادك لكي لا تأكلك الذئاب.