خلف الباب
توفيق رمضان
ينزل من على دراجته الهوائية، يضع الكيس المملوء بقوارير البلاستيك وعلب الجعة بجانب الحائط… ألم كبير في الظهر والقدمين… واكثر منه في القلب… لقد جاب أزقة المدينة وشوارعها… حتى الغابة المتاخمة قصدها… ففيها يجلس الندماء.. تحت أشجارها يجد أعقاب علب الجعة… أحيانا يجد منها الملأى… تركها أصحابها بعد أن امتلأت بطونهم وضاعت عقولهم… يأخذها ليبيعها لشبان الحي بنصف الثمن… لازال يذكر اليوم الذي أوقفه احد من ارتدوا القمصان واطلقوا اللحي حديثا قائلا سمعت انك أحيانا تبيع علب الجعة… ألا تعلم انه حرام… تركه ومضى في سبيله متمتما… عندما تبيعها الدولة تصبح حلالا… وتصير حراما إن باعها بائس مثلي… أوليس حراما أن اترك دراستي وتذبل أحلامي… أليس حراما أن ارث عن أبي هذه الدراجة ومهنة جمع البلاستيك… هل حلال بيع الوطن، بيع الوهم، بيع الصوت وبيع القلم… لا حرام إلا افتكاك حق من صاحبه، أو قول الزور.. هذا ما قاله لي أستاذي.
لقد مرّ اليوم من أمام معهده… طأطأ راسه وأدار دراجته بسرعة حتى لا يراه أصحابه… ابتعد قليلا ثم أوقف الدراجة والتفت الى المعهد، نظر إليه طويلا… تخيل تحية العلم هذا الصباح… قاعة الدرس… ملعب كرة القدم أثناء حصة الرياضة… كان تلميذا ذكيا، مجتهدا محبوبا من الجميع… حتى من ذلك القيّم الغاضب دائما يحبّه… كثيرا ما يشيد بأخلاقه… ويشجعه… أحيانا يمنحه ثمن «كسكروت»… يرفض أخذ النقود منه… كبّله ذلك القول الذي لقنه إياه جدّه (اليد العليا خير من اليد السفلى)… ينهره ويقول «خوذ مني… باباك خيرو سابق علي» كان يعلم أنه يقول ذلك حتى يرفع عنه الحرج فقط… فكيف لأبيه المعدم أن يكون له خير سابق على أحد من أهل القرية.
فقد والده في الصائفة الأخيرة… تحمل مسؤولية امه واخيه الصغير… انقطع عن الدراسة لأنه الأكبر والأقدر نسبيا على كسب القوت، ليوفر لقمة العيش وثمن الدواء لامه، ولوازم الدراسة لشقيقه… هذا مصير الابن الأكبر عند وفاة الوالد… عليه أن يدفن أحلامه في الوقت الذي يدفن أباه… عليه أن يصبح أبا وأخا… عليه أن يصبح كبيرا وكفى… يحاول جمع بعض الفرح على وجهه ورسم ابتسامة في العينين قبل الدخول… يعلم أن امه تنظر في عينيه قبل كل شيء… لذلك يحرص أن لا ترى حزنا فيهما أو حنينا… يدخل، يقبلها من جبينها… يضع بين يديها علبتي ياغورت وموزتين… يلح عليها كي تشرب حبة الدواء مع علبة الياغرت… يقشر لها موزة… تمسح على راسه وتضعه على صدرها وكأنها تقول كبير عليك الهم بنيّ… ادركك الشقاء سريعا… لم يمهلك لتعيش طفولتك وشبابك… لم يعطك الفرصة حتى تتسكع قليلا وتعاكس الفتيات وتكتب رسائل الحب الأولى… يرمي الموزة الأخرى لأخيه… يحضنه ويمرر أصابعه في فروة راسه.. ويقول في نفسه الحلم والأمل فيك يا صغير… لن أخذلك ولن اسمح لأحد أن يدفن حلمك… سوف لن أموت لأجلك أنت..
لا تغلق الباب بنيّ… أتركه مفتوحا قليلا… سأنتظر القمر… إنها «ليلة اربعطاش»… في زمننا كانت الأعراس تقام في مثل هذه الليلة… ربما يعود والدك… قال لي انه سيعود… امتطى دراجته الهوائية وذهب ليأتي لي بالدواء هذا الفجر… لكنه تأخر… ليس من عادته أن يتأخر الى مثل هذا الوقت… هل تراه في المقهى… أم مرّ على عمك الهادي ليأخذ منه ثمن «فواياجات البلاستيك الي وصلهملو».
ينظر في السماء، يتناول قلمه وورقات مطويات في جيب جمازته ويكتب… خلف الباب أعين تأبى النوم… أو هو يهجرها… تنظر بعيدا الى ماض جميل… تنتظر قدوم من لا يأتي… وأخرى ارهقها السهر والحلم… تنتظر ساعات الفجر الأولى لتبكي… البكاء كما القرآن..ف ي الفجر يكون مريحا أكثر.