منع التداول في قضية “التآمر” : هل يكون الصمت أكثر إيلاما من غياهب السجن ؟
عبد السلام الككلي
إذا سلبنا حرية التعبير عن الرأي فسنصير مثل الدابة البكماء التي تقاد إلى المسلخ.
جورج واشنطن
أصدر قاضي التحقيق الأول بالمكتب 36 بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب، قرارا يمنع بمقتضاه التداول الإعلامي في قضيتي التآمر على امن الدولة المتعهد بهما، وفق ما ذكرته الناطقة الرسمية باسم القطب، حنان قداس، لوكالة تونس أفريقيا للأنباء، مساء الجمع وأوضحت قداس أن هذا الإعلام الموجه لوسائل الإعلام السمعية والبصرية، يرمي إلى الحفاظ على حسن سير الأبحاث وسرية التحقيق وحماية المعطيات الشخصية للأطراف موضوع البحث حسب نص القرار. وتم إيقاف واستنطاق عدد من السياسيين والجامعيين والناشطين في أحزاب ومنظمات ومحامين على ذمة تحقيقات تتعلق بالتآمر على امن الدولة الداخلي والخارجي.
هل يتطابق قرار حاكم التحقيق مع القانون؟
لن نتوقف عند المبادئ الدستورية والقانونية والحقوق الدولية الضامنة لحرية التعبير والتي تصون العمل الصحفي فقد أطال الصحافيون في الحديث عنها بل سنستعرض في عجالة النصوص التي تحد من هذا الحق في صلة بأعمال التحقيق القضائي وذلك من اجل اختبار مدى تطابق قرار حاكم التحقيق مع هذه التحاجير القانونية. يصون القانونان التونسي والمقارن أعمال التحقيق من اجل المحافظة على سريتها وحماية للمعطيات الشخصية لذوي الشبهة في فترة البحث الأولي. فالفصل 61 من المرسوم عدد 115 لسنة 2011 المؤرخ في 2 نوفمبر 2011 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر يحجّر نشر وثائق التحقيق قبل تلاوتها في جلسة علنية ويعاقب مرتكب ذلك بخطية تتراوح بين ألف وألفي دينار كما ينص الفصل 62 على انه يحجّر التناول الإعلامي لأي قضية من قضايا الثلب وثبوت النسب والطلاق والإجهاض. وذلك حفاظا على سمعة الأشخاص وشرف الأفراد والعائلات.
ولا يوجد في القانون التونسي ما يسمح حتى لحاكم التحقيق نفسه قبل ختم البحث وتوجيه التهمة لذي الشبهة بإعطاء أذون في نشر معطيات ذات علاقة بالتحقيقات والإذن الوحيد الذي يسمح به القانون هو الذي تسلمه المحكمة لنشر كل أو بعض من الظروف المحيطة بالمحاكمات المتعلقة بالجرائم أو الجنح المنصوص عليها بالفصول من 201 إلى 240 من المجلة الجزائية وذلك بطريقة النقل كالهواتف الجوالة أو التصوير الشمسي أو التسجيل السمعي أو السمعي البصري أو بأية وسيلة أخرى. وبذلك يكون القانون التونسي مطابقا للضمانات الدولية للمحاكمة العادلة التي تستوجب سرية التحقيقات في الأطوار الأولية للأبحاث ولا يسمح برفعها إلا في طور المحاكمة حيث تكون الجلسات علنية.
ويحظر القانون الفرنسي نشـر القرارات الاتهامية وكل أعمال التحقيق الجنائي أو الجنحي قبل تلاوتها في جـلسـة عـلنية، تحت طائلة غـرامـة مـقدارها 750 3 يـورو. كما يـحظر –تحت طائلة نفس العقوبة– نـشـر أيّـة مـعـلومـة خاصة بـأعـمـال ومـداولات مجلس القضاء الأعلى، باسـتثناء المـعـلومات الخاصة بالجلسـات العلنية، والقرارات العلنية التأديبية بـحـق القـضاة ويبقى بالإمكان نشر المعلومات الصادرة عن رئيس المجلس. ويربط القانون المصري بين أعمال التحقيق والسر المهني حيث يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر وبغرامة لا تتجاوز خمسمائة جنيه كل من تسمح لهم وظائفهم أن يتصلوا بأعمال التحقيق إن أفشوا أسرارا منها وسبب التأكيد على سرية التحقيق ظاهر بين وهو أن تفاصيله لم تصل بعد إلى غايتها وهي كشف الحقيقة، وقد يؤدي إفشاء البعض منها إلى التأثير على الشهود أو التلاعب بآثار الجريمة وأدلتها، أو العبث بمعالمها.
توسع لا مبرر له
بقطع النظر عما يلف قرار حاكم التحقيق من الغموض في صيغته كما سنرى والجهة التي أرسل إليها (لم تؤكد أية وسيلة إعلام تلقيها لهذا القرار ولم تنشر «الهايكا» أي بيان أو بلاغ في الموضوع إلى حد كتابة هذه الأسطر) . فالكل ينكر رؤيته عيانا. وبقطع النظر أيضا عن الجهة التي أعلمت به وهي القطب القضائي لمكافحة الإرهاب فانه يثير أسئلة متعددة:
هل أرسل القرار إلى «الهايكا» لتذكيرها بالمرسوم 115 وخاصة الفصلين 61 و 62 مما يجعله مجرد تذكير بقانون ساري المفعول وغير مرتبط بالضرورة بانتهاك حدث في المدة الأخيرة في صلة بقضية التآمر على امن الدولة ؟
تقع كلمة التداول في نص القرار موقعا غريبا في نطاق الضوابط القانونية للتعامل مع مسار التحقيق. فالقانون يتحدث عن نشر وثائق أو نشر معطيات محيطة بالمحاكمات ولا يوجد ضمن النصوص القانونية ذات الصلة ما يمنع التداول بشان أية قضية من القضايا سواء المعنية بموضوعنا أو غيرها إلا في ما يخص القضايا ذات الطابع الشخصي مثل الثلب أو الطلاق أو الإجهاض.
والتداول لغة يفيد انتقال الشيء من جهة إلى جهة أخرى. تداولت الأيدي الشيء أخذته هذه مرة والأخرى مرة. ويقال تدول القوم الأمر وتَدَاوَلَ النَّاسُ آخِرَ الأَخْبَارِ: تَنَاقَلُوهَا وَتَبَادَلُوا فِيَها الرَّأْيَ. إذن فالتداول هو نقل الخبر وتبادل الرأي حوله فهو بهذا يتضمن جوهر العمل الصحفي من خلال وظيفتين أساسيتين من وظائفه أولا الإعلام باعتباره نقلا للخبر أو المعلومة ثانيا النقاش والحوار باعتبارهما مساهمة في شرح المسائل للمتلقي خاصة إذا كان الأمر يعني أمورا تقنية (مثل المسائل القانونية) تحتاج إلى الشرح للمتلقي العادي خاصة.
هكذا فان التداول سواء بالمعنى اللغوي أو الاصطلاحي يدخل ضمن العمل الصحفي الذي يخضع لضابط أصلي متضمن في الفصلين 61 و 62 من المرسوم 115 مما يجعل الهايكا هي المخول بمراقبة الأداء الإعلامي في صلة بأعمال التحقيق وترتيب الأثار القانونية عن كل انتهاك.
وبناء عليه من السهل أن نستنتج أن القرار لا يعني سرية التحقيق ولا تطبيق القوانين السارية المفعول إذ انه لم يرتبط بممارسة محددة أو تجاوز محدد يبرر قرار حاكم التحقيق.
ومن المهم التذكير في هذا السياق بان حاكم التحقيق اتخذ سابقا قرارات جزئية تتعلق بمنع تناول قضية بعينها في الإعلام مثل القرار الذي اتخذه قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بتونس المتعهد بقضية مقتل الشاب آدم في مطعم ماديسون بالعاصمة إذ قرر منع بث ريبورتاجا حول القضية في برنامج «الحقائق الأربع» ليلة 22 نوفمبر 2019 على قناة الحوار التونسي.
وقد جاء قرار منع البث إثر طلب تقدم به أحد المحامين النائبين في القضية مستندا في طلبه على المبدأ القانوني المتعلق بسرية التحقيق في قضية يتعهد بها.
فهل أن الغرض من القرار منع التداول في قضية «التآمر» ليس حماية سرية التحقيق ولا المعطيات الشخصية ؟ من الصعب أن نقتنع أن القضاء يهمه ذلك كثيرا وسط هذه الفوضى العارمة التي تحدثها صفحات وأشخاص معروفين يدعون ولاءهم لرئيس الجمهورية احترفوا منذ مدة نشر وثائق التحقيق وهتك أعراض الناس ونشر معطياتهم من قضاة ومحامين وشخصيات عامة دون رادع وذلك رغم عشرات القضايا التي قدمت ضدهم.
سياسة كتم الأفواه
هل أن ما يزعج السلطة حقا هو أن ما يذيعه المحامون خصوصا من معطيات حول القضية وخلوها من أي إثباتات أو حجج قد تمثل سبب قانونيا مقنعا لسجن مجموعة من الأشخاص المعارضين وتناقل وسائل الإعلام لهذه التصريحات وما يصاحبها من حوارات مع هيئة الدفاع. فلم تنفك الهيئة عن التأكيد على أن القضية فارغة وهو بالضبط ما يقلق السلطة ويمثل ضغطا مستمر عليها.
ففي هذا السياق قال المحامي عبد العزيز الصيد عضو هيئة الدفاع عن الموقوفين في قضية التآمر على أمن الدولة، مثلا في مؤتمر صحفي، إنّه رغم خطورة الاتّهامات الإرهابية الموجّهة إليهم إلاّ أنّ ملفاتهم لا تزال فارغة، ولا تحتوي على أيّ أدلة منذ 3 أشهر، مشيرا إلى أنّهم متّهمون بالتخابر مع الأجانب والحال أنّ القضاء قد أصدر بلاغا نزّه فيه الأجانب لكنّه أبقى على الطرف الآخر في السجن.
وتفيد المعطيات التي نشرها المحامون أن شخصا مخفي الهوية وهو xxx تقدم بوشاية لوكيل المزرعة يعلمه فيها بتلقيه مكالمة هاتفية من قريبه في بلجيكا يعلمه فيها بأن تونسيين هناك يتحدثون في المقاهي عن مؤامرة لقلب نظام الحكم، وأن قريبة كمال اللطيف كانت تجتمع في مقر السفارة التونسية تجتمع فيه بروكسيل بدبلوماسيين وأمنيين للتآمر على امن الدولة، وأن قريبته في بريطانيا أعلمته بأن أحد معارفها في الولايات المتحدة أعلمها بوجود ترتيبات لعقد لقاء مع عراب الانقلابات في المنطقة برنار هنري ليفي.
وبناء على هذه الوشاية لا اكثر تم اعتقال عدد من قادة المعارضة، وبالتفتيش في هواتفهم عثر على محادثة بين خيام التركي ودبلوماسية أمريكية تطلب فيها التعرف على جوهر بن مبارك وشيماء عيسى، فيتم اعتقال المناضليْن السياسييْن بتهمة التخابر مع جهات أجنبية. قبل أن يتم التراجع عن هذه التهمة بالنسبة للدبلوماسيين الأجانب وإبقاء على المتهمين في السجن.
ويشار إلى أنّ هيئة الدفاع عن الموقوفين في ما يعرف بـ «قضية التآمر على أمن الدولة» قد قدّمت شكايتين لدى النيابة العمومية باسم منوبيها، الأولى المقدّمة ضدّ وزير الداخلية السابق، تتعلّق باستعمال الهاتف الشخصي لشيماء عيسى وإرسال رسائل إلى بعض النشطاء رغم أنّها في السجن والشكاية الثانية تتعلّق بفتح تحقيق ضدّ وزيرة العدل في «التدليس والتزوير الطارئ» للوثيقة الأصلية التي انطلقت منها الأبحاث في هذه القضية.
ومن شبه الأكيد أن تصريحات المحامين الأخيرة وتناقلها من قبل وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بشكل مكثف مثلت عبئا على السلطة السياسية المتهمة بالتدخل في الشأن القضائي في ظروف تثار فيها كثير من الشكوك حول استقلال القضاء في تونس بحسب بيانات جمعية القضاة نفسها سواء على مستوى النيابة أو التحقيق أو الدوائر الحكمية فمن اللافت للنظر انه منذ إصدار بطاقة إيداع بالسجن ضد مجموعة من القادة السياسيين لم يتقدم حاكم التحقيق خطوة واحدة في مستوى أبحاثه وتحرياته بل انه لم يستمع إلى بعض الموقوفين منذ صدور بطاقة الإيداع ضدهم مثلما هو الأمر بالنسبة إلى الأزهر العكرمي بحسب ما صرح به المحامون. وهو ما يؤكد فرضية أن الملف فارغ وان أحسن طريقة لردم القضية إلى حين انقضاء اجل الإيقاف التحفظي وهو أربعة عشر شهرا هو كتم أنفاسها إعلاميا الى ذلك الحين، على وسائل التواصل الاجتماعي والفيسبوك خصوصا.
إن ما يجعل القضية حية في النفوس والضمائر هو الحديث عنها والتداول بشأنها ونقل أخر أخبارها. أما الصمت فهو نوع من السجن الثاني الذي تمارسه السلطة على الموقوفين فهم لا يواجهون تحقيقا يمكنهم بصدده الدفاع عن أنفسهم مما يتقدم بالقضية ويسهل وصول حاكم التحقيق إلى ختم أبحاثه في آجال معقولة مما قد يفضي إلى قرار بعدم سماع الدعوى في حق ذوي الشبهة أو إحالة الملف الى دائرة الاتهام ومنها إلى المحكمة ليطلع الرأي العام أثناء المحاكمة العلنية على كل معطيات القضية ويصبح امر التداول بشأنها مباحا للجميع. إن اخطر ما يخفيه هذا القرار هو شبهة أن يكون قرارا سياسيا وضع في غلاف قانوني قضائي.
لقد شرعت السلطة بعد تخريب كل الأجسام الوسيطة من مجالس وهيئات وطنية وأحزاب في محاصرة الإعلام والتضييق علي عمله فهو المربع الأخير الذي بقي صامدا وكان لابد من تركيعه بواسطة المنع والملاحقات القضائية. وها هو المرسوم 54 صاحب باع وذراع في تحقيق هذا الهدف وسط الخوف العام الذي بدأ يسود البلاد والذي لا يكسره غير عدد قليل من المنظمات المهنية والحقوقية وعدد قليل من الصحافيين في ظل الرعب الكامن في الصدور والموروث عن زمن الاستبداد والذي تشتد آثاره البغيضة وتتوسع كالسرطان الزاحف يوما بعد يوم ليعيد البلاد إلى أزمان حالكة خلنا أن الثورة خلصتنا منها إلى الأبد…ولكن هيهات
اسطرلاب