أنور الغربي
نصيحتي للمقاومين والمناضلين في كل مكان لا تتخلوا عن أماكنكم فيطمع الذي في قلبه مرض.
أريد في البداية ذكر حادثة تساعد على فهم الصراع الدائم والمتواصل بين الإرادات في كل الأزمنة وكل الأماكن تقريبا مع الأخذ في الاعتبار الأجواء المحيطة. الصراع بين منطق رجل الأمن ومنطق القانون ودولة المؤسسات تجده في كل الأماكن وكل الأزمنة، فقط كيفية التعاطي تختلف والأمر كله متروك لإرادة كل منا.
أواخر التسعينيات من القرن الماضي كان معنا في جمعية الإغاثة لفلسطين صديق عزيز وكان يساعد في جمع المال وإبداء الرأي في اجتماعات المكتب في جينيف. سنة 2003 شنت إدارة جورج بوش حملة واسعة على الجمعيات الإغاثية الداعمة للمحتاجين في فلسطين متهمة إياهم بدعم ما تسميه “إرهابا” وقتها. جمعيتنا صنفت مع 4 جمعيات أخرى من بريطانيا وفرنسا والنمسا ولبنان كأهم الداعمين للإرهاب وأعلن جورج بوش بنفسه عن القائمة ومتوعدا بالعقاب للمعترضين على سياساته.
تعرضت جمعيتنا التي كنت سكرتيرها العام حينها لحملة شيطنة واسعة واجهناها وتصدينا لها بما لدينا من إمكانيات وعلاقات وخاصة عبر التمترس خلف القانون والطلب من السلطات السويسرية الخروج عن صمتها وإعلاء راية الحق والقانون وان كان في وجه الرجل المتغطرس والخطير جورج بوش.
ولكن وتحت الضغط على المتبرعين والبنوك والترهيب الفكري والإعلامي والسياسي وتأثير البروباغندا الإسرائيلية وأدواتها المختلفة اضطرت جمعيتنا في سويسرا لتغيير استراتيجية عملها عبر مواصلة العمل بواجهات أخرى واتخذ قرار إبقائها مسجلة من أجل الدفاع عن القانون وتثبيت العدالة ومنها رفع القضايا ضد جورج بوش وأعضاء حكومته ثم بعد ذلك شملت توني بلار وقيادات إسرائيلية ولم يقع شطب الجمعية من السجل التجاري السويسري إلا بعد سنة 2020 أي بعد الـتأكد بان جميع أهداف الجمعية قد تحققت وأن الهدف هو مواصلة العمل باليات مختلفة وليس بالضرورة عبر جمعية محددة.
منذ بداية الهجمة فقدنا الاتصال بصديقنا المذكور أعلاه وبحكم مسؤوليتي الأخلاقية والاجتماعية كان من المهم لدي الاطمئنان على الجميع وتحمل مسؤولياتي كاملة في الإعلام والعلاقات ونقل الصلاحيات وإيجاد البدائل وطمأنة الشركاء وعلى راس الأولويات إيصال المستحقات لأصحابها من الأيتام والأرامل والمحتاجين. كنت التقي الصديق من حين لآخر وأمازحه قائلا أن مكانك بقي شاغرا ولن يملأه غيرك، ولكن كان واضحا بأن الرجل أخذ مسافة وانسحب من العمل بصمت ورقي أخلاقي ولكن دون مبررات وأيضا دون حرص مني على معرفة الأسباب لأني أحترم الخصوصيات خاصة أن الجميع كان متطوعا ولم يكن لدينا إلا موظفة واحدة تتابع ملفات الأيتام.
بعد مرور حوالي عشر سنوات أسر الي الصديق بحقيقة ما وقع له ومعه في تجاوز خطير للقانون ولحقوقه وكان صادما لي لأبعد الحدود ولكنه ذكر بمرارة الأحداث ورغبة ملحة في التجاوز خاصة أن عمل الجمعية تنوع وتعدد وتجاوز البعد الإغاثي وصار يعتمد بدرجة أساسية على موظفين وأصبح للعمل فروع متعددة في كل أوروبا تقريبا مع رغبة ملحة من الجميع باتباع القانون واحترام جميع الإجراءات ودون التفويت في أي حقوق.
قال لي لقد داهمت خلال الأيام الأولى للحملة فرقة أمنية لسكناه وطلبوا منه التعاون معهم في قضية الجمعية ومعرفة حقيقة المستفيدين من أهل فلسطين وهددوه فأبلغهم يومها أنه مجرد عنصر تنفيذ وبدون أي مسؤولية ولا علاقة له بالتوجهات العامة وأخذ القرارات وقال لهم أن مسؤولي الجمعية معروفون بأسمائهم وصفاتهم وكان رد الأمنيين عليه يومها “لو أخذناك معنا اليوم وبقيت مدة طويلة في انتظار المحاكمة فانه لن ينتبه لغيابك أحد ثم انك بلا سند ولا تقارن نفسك بفلان أو علان…” كلام خطير يفهم منه وكأن الرجل ارتكب جرم كبير وأنه الحلقة الأضعف وعليه أن يتعاون كلام فيه تقزيم وإهانة وتطاول غريب خاصة أنه يحدث في جينيف.
قلت له هل لديك بعض الأدلة لنرفع ضدهم قضية رغم مرور زمن طويل وخاصة هل لديك الاستعداد لخوض المعركة كشاكي وأنت الآن وضعك أفضل من ناحية الإقامة والشغل والوضع الاجتماعي ؟ فقال لي يومها أنه يفضل نسيان الموضوع والتجاوز.
مرت السنين وطلب صديقنا مقابلتي مباشرة بعد فترة الكورونا وفوجئت مجددا بأن نفس الجهات تقريبا وربما بأسماء أخرى متورطة بشكل أو باخر في تشويهه والإساءة إليه ومحاولة ربطه بمجموعات متشددة وهو يواصل الصمود ولكن “لوحده” أو في دائرته الضيقة محاولا تفادي القضاء والإعلام والظهور بوجه مكشوف.
الدرس من الحادثة أن من يسكت على حقه مرة ستطاله السياط مرات ومرات ومن ينحني لإرادة أمني خارج أطر القانون سيفقد أمنه وحريته وجزء من إنسانيته.
الدرس للأجيال – لا خيار إلا بالتمسك بالحقوق وبدولة القانون والعدل ورفع الصوت عاليا في وجه الظلم والفساد في أي ارض ومكان وزمان، أما نحن فان قناعتنا ثابتة وخياراتنا واضحة تابعنا شيمون بيريز وإيهود أولمارت وشارون قضائيا وحققنا إنجازات في ذلك واضطرت قيادات مثل جورج بوش وكولن بأول ورامسفيلد لإلغاء زيارات مبرمجة لسويسرا لسبب بسيط أننا وغيرنا أصحاب حق ونقولها ونعلنها أمس واليوم وغدا.
هدفنا إحقاق الحق وإعلاء راية القانون مع الشركاء والأصدقاء وأصحاب الهمم العالية واذا انحنيت يوما أو انسحبت من ساحة البناء فان سياط الباطل ستتابعك أينما وجدت وحللت.