في العشرية السوداء: شهادة اكبر الفاعلين

أحمد الغيلوفي

كتاب السيد حسين العباسي، “تونس والفرص المهدورة”، هو أول كتاب أراه في حياتي يكون اسم الكاتب اكبر بكثير من عنوان الكتاب، وكأن الناشر يريدنا أن نهتم بالكاتب اكثر من المكتوب. وبالفعل ذلك ما حصل: لم أر من قرا الكتاب وساءل الكاتب عن خيارات ومسؤولية الاتحاد في “العشرية السوداء”. عندما تُنهي الكتاب تقول في نفسك “إذن، كان الاتحاد الفاعل الأكبر في العشرية”. هو وثيقة تاريخية هامة، لان الكاتب كان احد الفاعلين القريبين من الأحداث في الثورة، ثم ابرز الفاعلين بعدها، بوصفه أمينا عاما للاتحاد. علينا فقط أن لا نطلب ممن كان فاعلا في الأحداث أن يقول كل شيء وبموضوعية، خاصة وان الكثير من الشخصيات والفاعلين لا يزالون أحياء، وقد أشار الي ذلك في مناسبات عدة “تجنّبا للإحراج”.

تونس والفرص المهدورة

سنُركز على الفترة الممتدة من الثورة حتى حكومة الشاهد لنتبيّن دور الاتحاد، ونترك فيها هذا الكلام للسيد العباسي. ولكن هناك ملاحظة هامة قبل ذلك: علاقة النقابة بالسلطة: يؤكد السيد العباسي أن النقابة كانت جزء من السلطة منذ الاستقلال، “ولقد بدا لي ذلك مُبرّرا الى حد كبير نظرا للمشاركة الفاعلة (مشاركة الاتحاد لحزب الدستور) في مقاومة الاستعمار.. ولكني لاحظت أن هذا التداخل قد تواصل بعد الاستقلال.. ومما استرعى انتباهي كذلك وجود شخصيات نقابية ضمن الديوان السياسي للحزب الحاكم في تونس.. مثل هذه الأمور جعلتني اقتنع أن النقابة كانت في سلة واحدة مع السلطة السياسية القائمة ومتفاعلة معها” (ص 48/49) هذا الشعور الحاد بالشراكة في السلطة مع حزب الدستور سيجعل الاتحاد جزء من النظام وسيكون له دور حاسم في سلوكه وفي موقفه من الثورة ومن القوى التي أرادت الحكم بعدها. علينا أن نقرأ كل الكتاب، وننظر الي دور ومواقف الاتحاد خلال العشرية في ضوء هذه الملاحظة.

أحداث الحوض المنجمي:

انطلقت الأحداث لخلاف حاد بين شركة الفسفاط والاتحاد الجهوي: “كان هناك اتفاق حاصل بين شركة فسفاط قفصة والاتحاد الجهوي بقفصة ينُص على انه على كل عملية انتداب تتمتع النقابة 20 بالمائة منها، وكانت إنتدابات النقابة تُعطى للمقربين وللعائلة الموسعة والأصدقاء والمعارف.. ولكن بحلول 2006 قلّصت الشركة من انتداباتها نظرا الى عصرنة الألات وهو ما قلص الانتدابات…” (116/117)..” وكانت السلطة تراهن على أن الاتحاد سيعمل على إخماد هذا الحراك في مراحله الأولى” (ص118) وبالفعل وقع عرض النقابيين المسؤولين على الأحداث على لجنة النظام وتم عزلهم “وكانت النتيجة بان ضربت السلطة بيد من حديد ..وزجّت بمجموعة كبيرة في السجون” (ص 120)

الثورة: علينا أن نلاحظ المهمة التي قام بها الاتحاد والمفردات التي يستعملها السيد العباسي ونقرأ ذلك على ضوء الملاحظة الأولى التي بدانا بها (الاتحاد جزء من النظام): في تالة “اخبرنا أعضاء الاتحاد المحلي بانهم قادرون على السيطرة على الحراك وإعادة الاستقرار في حال خروج الأمن من المنطقة ص 128)”: لنلاحظ مفردات “الأزمة” و “السيطرة على الحراك” و”إعادة الاستقرار” وبالتالي إنقاذ النظام، تلك هي مهمة الاتحاد. “المساعدة ما امكن في حل الأزمة” (ًص 132) “اتصل بي الوالي فأجبته… محاسبة الاتحاد عن محاولته لحل الأزمة.. وعلى كل حال نحن نرحب بكل حل يُهدئ الوضع” (ص133) “والسعي الي إقناع السلطة بضرورة حضور الأهالي لجنازات الشهداء مقابل التزامنا بعدم تطور الأمر اثرها” و”طُلِب مني عقد هيئة إدارية جديدة لمحاولة حل الأزمة بالتعاون مع السلطة التي جاء يمثّلها (منذر الزنايدي) ص 134). كل الصفحات المُخصصة للثورة تسير في هذا الاتجاه: الاتحاد يقوم بدور الوساطة بين السلطة والمحتجين من اجل إنقاذ النظام وعودة الهدوء، لذلك “كانت مقرات الاتحاد محمية تقريبا ولم يأذن بن علي باقتحامها” (ص 135) .. “ولم يتصور احد (داخل الاتحاد) أن يهرب بن علي بذلك الشكل فينتهي الأمر ببساطة، وكانت تدور نقاشات كثيرة بحثا عن حل للوضع ولكن الكل تفاجئ برحيله بتلك السرعة” ص 137). وهذا يفسر لنا عدم مشاركة قيادات الاتحاد في المظاهرات (ص138).

بعد هروب بن علي:

• حكومة محمد الغنوشي : “اقترح الغنوشي تشكيل حكومة عارضا على الاتحاد ثلاث حقائب وزارية، إذ وقع اقتراح أنور بن قدور وعبد الجليل البدوي وحسين الديماسي” وكان “هذا قرار من بعض الأعضاء في المكتب التنفيذي” (ص 140)

• اعتصام القصبة 1: “لم يكن للاتحاد مساندة فعلية للاعتصام” (ص 141).

• اعتصام القصبة 2: لم يكن الاتحاد مساندا للاعتصام و”طغى التردد ولم نتوصل الي موقف واضح…وبعد نقاشات طويلة توصلنا الى إقناع البقية في إصدار بيان مساندة للاعتصام.. ويبدو أن اقتناع الجميع بذلك “كان على أساس معلومات بلغت تفيد أن محمد الغنوشي لم تعد لديه القدرة على الصمود أمام ضغط الشارع وانه قرر حل الحكومة” ( 142).

• العفو التشريعي العام: دافع الاتحاد على أن يشمل العفو المورّطين في أحداث سليمان “كنا نرى أن ما مارسوه من إرهاب دفعتهم إليه الدولة التي يجب أن تتحمل المسؤولية..” كان “موقفنا يتلخص في أملنا في أن يتغير موقفهم (جماعة سليمان) من المجتمع والدولة” (ص 145).

• القانون الانتخابي: “وحين وصلنا الى مناقشة القانون الانتخابي وجدنا أن أحزاب كبيرة بدأت تظهر وتؤثر في الساحة السياسية، واذا فكرنا في قانون على القائمات فان تلك الأحزاب ستفوز بكل شي، لذلك تم التوجه الي التمثيل النسبي… ولكن حين دخلنا الى الحوار الوطني وجدنا أن كل الأحزاب الصغيرة تريد الإبقاء على القانون الانتخابي نفسه لتضمن لنفسها مكانا في البرلمان.. فأبقينا الأمر على ما هو عليه” (ص 150).

• كتابة الدستور: كان الاتحاد فاعلا في كتابة الدستور وفي توجيهه وجهة اقتصادية واجتماعية. وكان له دستورا جاهزا للبلاد “حين كنا في مؤتمر طبرقة كان مشروع دستور الاتحاد جاهزا” (ص 157). يقول السيد العباسي: في دستور 1959 ورغم أن الاتحاد كان في المجلس التأسيسي وساهم في كتابة الدستور إلا أن النقابيين لم يستطيعوا التنصيص حتى على مجرد حق الإضراب، “وذلك لان بورقيبة كان مسيطرا على الجميع” لذلك “كل نضالاتنا وإضراباتنا منذ السبعينات والثمانينات لم تكن قانونية” (ص 224). لهذا “حرِصِنا على تضمين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الدستور..خاصة بعد طرح اتحاد الصناعة والتجارة لجملة من النقاط لتضمينها، ومن هذه النقاط حرية العمل وحرية الاستثمار، وهما نقطتان قادرتان على نسف حقوق العمال” (ص 225). “اجتمعنا في المكتب التنفيذي للبحث في سبيل لإفشال الفصلين المذكورين (حرية العمل وحرية الاستثمار) في الدستور… اتصلت بالغنوشي فوعدني بمحاولة إقناع كتلة حزبه حتى تمتنع عن التصويت (على الفصلين).. يبدو أن موافقة حركة النهضة على كلامي كانت لأنها تخاف ردود فعل الاتحاد” (ص 227).

الحوار الوطني: “وبعد اجتماع بين الرباعي الراعي للحوار وضعنا خارطة طريق: روزنامة كتابة الدستور، وروزنامة عمل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وروزنامة وضع القانون الانتخابي مع التعهد باستقالة الحكومة (حكومة علي العريض)… ولقد رسمناها (خارطة الطريق) ليتم تنفيذها وليس لوضعها للنقاش” (ص 189).

من سيكون رئيس الحكومة؟ “فكرت شخصيا في عبد الكريم الزبيدي وقد عرفته بعد الثورة… لكنه اصر على الرفض” (ص 194) و”كاد يكون مصطفي الفيلالي حين اقترحنا اسمه.. كان الجميع يثني على حبه لمدينة نصر الله.. وكان لي شرف مُناداته بـ “ولد بلادي” (ص196) “… ثم قفز المهدي جمعة الي ذهني.. اتصلت به فأجابني بانه يقبل ذلك وان ذلك شرف له ويمثل ثقة كبيرة في شخصه.. اتصلت بوداد بوشماوي فباركت المقترح” (ص 203) “رفض راشد الغنوشي مُقترح المهدي جمعة، بل قدح فيه وذكر انه تابع للشركات الفرنسية ويخدم المصالح الفرنسية” (ص205) “أجبته بالقول انه لم يعد أمامنا من خيار وانه على النهضة القبول، فقبل على مضض وقال لي بانني سأندم على اختياري لأني لا اعرف الشخص” (ص206) وبالفعل سيكون هذا الاختيار هو اكبر شي ندم عليه العباسي.

تحصين حكومة المهدي جمعة: “فكرنا بوضع ضمانات حتى لا يقوم المجلس بسحب الثقة من الحكومة.. لذلك تم الاتفاق على أن يكون سحب الثقة بثلاث أخماس… هاتفني مصطفى بن جعفر ليعلمني بان هناك معارضة في المجلس لمسالة الثلاث أخماس، فطلبت منه إيقاف كل شيء تماما، واتصلت مباشرة براشد الغنوشي” (ص207).. في ذلك الوقت كان المهدي جمعة مُتجها الى قصر قرطاج لمدّ المنصف المرزوقي بتعيينه.. اتصلت به وهو في الطريق إليه وحذرته من الوصول الي المرزوقي قبل تغيير قانون سحب الثقة في المجلس الذي كان مجتمعا ليلا، وقلت له مالم يتغير القانون فانه قد يتم سحب الثقة من حكومته في أي وقت، وطلبت منه المماطلة في الطريق، وكان يتوقف أحيانا لاحتساء قهوة في انتظار تغيير القانون في المجلس، وحين تم ذلك اتصلت به فواصل الطريق وقدم تعيينه للمرزوقي” (ص 208)
وكان المهدي جمعه “يُطلعُ الرباعي على سير تشكيل الحكومة وعلى الأسماء لنتثبت معه وكان يأخذ برأينا” (209).

الهيئة العليا المستقلة للانتخابات: “اتصلت بأحمد صواب.. وبمحمد القاسمي اللذان جهّزا ثلاث نصوص لا نصا واحدا.. وقع اختيارنا على النص الأبسط والأنجع وقدمناه للمجلس، وفعلا تم الأخذ به” (ص110/111).

حكومة النداء: “أثناء البحث عن رئيس حكومة كان الباجي قايد السبسي في تواصل معي في اطار التشاور.. وكان الباجي قد كلف بوجمعة الرميلي للتواصل معي، وأذكر انه اتصل بي ليطلب رأيي في الحبيب الصيد، فأخبرته انه لا اعتراض لنا على هذه الشخصية.. فأعاد الاتصال بي ليعلمني انه وقع تكليف الحبيب الصيد” (ص232/234).. “وشكل الحبيب الصيد حكومة مؤلفة من بعض الوزراء.. واذكر اني كنت في سوسة فاتصل بي وشرع في سرد الأسماء” (ص235).

تحوير حكومة الصيد: “ثم طُلِب من الصيد تحوير حكومته.. وفي هذه المرة لم يقع التشاور مع الاتحاد.. اتصل بي راشد الغنوشي واعلمني بقضية التحوير ومدني بالأسماء وكنت أسجلها أمامي.. ثم اتصلت بالصيد وقلت له “لقد أصبحتم تعملون في السر” (ص238) كان العباسي يهاجم هذه الحكومة في الإعلام لذلك دعاه الباجي “وقال لي يمكن الصبر قليلا وتخفيف الضغط على الحكومة.. أما الوزراء (الذين يرفضهم الاتحاد) فسيتم تغييرهم وان المسألة مسألة وقت” (ص239).

الإطاحة بالصيد: قرطاج 1 “تمت دعوة الاتحاد.. حضرت فوجدت بعض أحزاب المعارضة مثل حركة الشعب والمسار.. كانت النية الحقيقية هي عزل الصيد دون الإفصاح عن ذلك، بمعنى أن الحوار لم يكن إلا غطاء” (ص242).

حكومة الشاهد: “حين تم تكليف يوسف الشاهد قام باستشارة الاتحاد.. ويبدو أن الباجي قد وجهه نحو ذلك.. وأبدى الاتحاد رايه بكل وضوح في بعض الأسماء المقترحة بناء على ما كان يراه ليس فحسب من عدائها للاتحاد وإنما أيضا أنها كانت في تقديرنا تشكل خطرا على البلاد” (ص245).

علينا أن نسال الآن: من كان يحكم فعلا خلال “العشرية السوداء”؟ اذا كانت حكومة حمادي الجبالي قد بدأت في 24/12/2011 وانتهت في 13/3/2013 أي عام واحد وشهران، وحكومة علي العريض قد بدأت في 13/3/2013 وانتهت في 29/01/2014 أي عشرة اشهر و16 يوم فمن المسؤول عن العشرية السوداء؟ اذا اردنا الإصلاح فعلا علينا قراءة تاريخنا قراءة موضوعية بعيدا عن الغوغائية والإصطفافات الأيديولوجية التي لم نربح منها شيئا. إصلاح الدول أشبه بمداواة الأبدان تحتاج نزاهة وشجاعة في تشخيص الأمراض ومُصارحة الناس. اكبر الفرص الضائعة هي عدم قراءة العشرية قراءة موضوعية من اجل الاستفادة من الأخطاء. لقد مارس الاتحاد السلطة فعليا خلال العشر سنوات ولم يترك الأحزاب تتحمل مسؤوليتها حتى تتحسن الحياة السياسية وتتطور، وكان في ذلك مدفوعا برغبة جامحة هي الحلول محل شقيقه من الرضاعة وهو حزب الدستور. لقد كان يعتبر نفسه صاحب الدولة وبانيها ووصيا عليها، وهو نفس الموقف الذي جعله يساند الانقلاب طمعا في ان يكون شريكا في السلطة، ورغبة في تحييد الأحزاب التي يرى أنها غير وطنية وغير تقدمية. علينا أن نطالب الجميع بنقد ذاتي، وأولهم الاتحاد.

Exit mobile version