سامي براهم
اللّعن هو الطّرد والإبعاد… والملعون هو المطرود والمنبوذ… وفي قاموس كلّ شعوب العالم كلمات وعبارات ملعونة منبوذة لدلالتها البذيئة التي يستنكرها النّاس أو لما تحمله في عرف الاستعمال من شحنة تعييريّة مستهجنة أو إيحاءات خادشة للحياء أو لما تحيل عليه من أبعاد عنصريّة أو مضامين تحرّض على الكراهية والعنف…
وفي معجم ملفوظنا العربيّ الفصيح أو الدّارج عبارات من هذا القبيل يستنكف العقلاء والملتزمون بضوابط الأعراف والأخلاق والذّوق السّليم من التلفّظ بها أو مجالسة من يتلفّظ بها… هي عبارات منبوذة ملعونة رغم حضورها في المعجم اللغويّ المخزّن في الذّاكرة وقد تنفلت في حالات الانفعال والتحرّر من الرّقابة الذّاتيّة…
وينضاف إلى هذا المعجم عبارات أخرى لا تندرج ضمن الملعون والمنبوذ من الملفوظ ابتداءً وأصلا بل هي من العبارات “البريئة” التي وقع تحويل معناها في الاستعمال وشحنه بمدلول سلبيّ فأدرجت ضمن الملفوظ الملعون الذي لا يليق استعماله في الفضاء العامّ مثل عبارات التّعريض “الغشّة”…
وقريب من هذا القبيل عبارات كان تحويلها في ضمن سياقات سياسيّة ملتبسة حرّفت الكلم عن مواضعه وصبغته بمدلول محمّل بشحنة سلبيّة تحرّض التّناحر والكراهية والعنف وانتهاك الحرمة الجسديّة التي تصل حدّ إهدار الدّماء واستباحة أرواح النّاس… والقائمة في ذلك طويلة :
الجهاد / الشّريعة / السّلف / الإيمان وكفر / الولاء والبراء / الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر / الدّعوة / الإرهاب / التّدافع / التّمكين / الطّاغوت… وغيرها من العبارات التي فقدت مدلولها التّداولي الثّاوي في النّصوص الأصليّة التي عبّرت عنه…
إذا كانت استراتيجيا النّبذ والاستبعاد في معجم البذيء من العبارات مفروضة بمقتضى قوّة العرف والاستعمال والضّمير العامّ حتّى استقرّت منبوذة مذمومة فإنّ ذلك لا يعتبر تضييقا لسعة معجم اللغة ولا خضوعا لإرادة من أنتج تلك العبارات والسّياقات الحافّة المستحدثة…
لكن ما وقع حَرْف مدلوله لأسباب سياسية أو مذهبية من غير المعقول نبذه ولعنه وحذفه من دائرة الاستعمال لأنّ في ذلك اعتداءً على حقيقة الدّلالة في أصلها أو المتعارف عليه استعمالا من مدلولها والمرجّح من تأويلها…
وهو كذلك تواطؤ مع التّحريف ذاته لما فيه من تثبيت للدّلالة المحرّفة لتصبح متطابقة مع الدالّ لا تحتمل مدلولا غيره وما في ذلك من انتهاك للدّلالة وتضييق للمعنى ومصادرة للاستعمال وحجر للخيال واستهداف لإمكانات اللغة التّواصليّة والتعبيريّة…
لا يجب أن يتحكّم من حرّفوا الكلمات في الدّلالة ويستأثروا بها دون مستعملي اللغة ومنتجي معانيها بل يجب تحرير اللغة من “مدنّسي” مدلولاتها خاصّة إذا كان مصدرها نصّ يتّصف بالقداسة عند من يعتقدون ذلك… حتّى لا تقتل اللغة مرّتين: مرّة على لسان من يحرّف مدلولاتها ومرّة على يد من يتّخذ من المدلول المحرّف مرجعا للتّحكيم والتّجريم…