نور الدين الغيلوفي
محاولة في الفهم
1. هي واحدة وهم شتّى، فليس أغرى بوحدتهم (الأوطاد) من حربهم الجامعة لهم عليها. لذلك تراهم يُنكرون انشقاقاتِهم يهوّنونها ويهوّلون انشقاقات النهضة وينفخون في الصراع بين قياداتها.
2. هي متديّنة وهم يرون في الدين رجعية وظلامية تشدّ الإنسانية إلى الوراء وتمنعها من التقدّم، لأنّ التاريخ، في فهمهم السطحيّ، خطّ مستقيم ماضيه تخلّف وآتيه تقدّم، وهم كمن ينتظر ذهاب الليل وحلول النهار، وتلك حتميتهم المنتَظَرة. ولكي تكون تقدميًّا فعليك أن تقطع مع كلّ التعبيرات الماضويّة لأنّها عوائق في الطريق. والحال أنّهم قابعون في القرن 19 أو ما وصلهم من ترجمات ماركس المتعالقة وما وافق أفهامَهم من تلك الترجمات الفرنسيّة الماضويّة المتخلّفة.
3. بعيدا عن سجالات الكفر والإيمان وعن الثنائيات القاتلة التي يتورّط فيها هؤلاء وهؤلاء، لا يزال الدين، في اعتبار الوطد، بمختلِف شقوقهم، هو المسؤول عن تخلّف مجتمعنا.. وما دام الله مستوليا على العقول، في فهمهم، فلن تتحرّر في الناس إرادةٌ ولن يتحقق تقدّمٌ، وذلك هو جوهر الرجعية كما يفهمونها.
الرجعية رجوع إلى الخلف، وليس أكثر خَلْفا من دين في فهمهم الوضعاني السماعيّ، أقول سماعيّ لأنّهم لا يقرأون، ولو أنّهم قرأوا لتحرّر فهمُهُم. ولخرجوا من كهف عدوانيتهم الغرائزيّة ولتمرّدوا على تأويل “الدين أفيون الشعوب” المتكلّس.
وينسى هؤلاء أنّهم، وهم يُنكِرون الدين ويرمونه بالتخلّف والرجعيّة، قد جعلوا من الماركسية اللينينية دينا، وجعلوا من ماركس إلاها ومن لينين نبيّا.. ومن زعامات الأمميّات حَواريين.
ذهنية الوطد هي ذهنيّة دينية دوغمائيّة في عمقها وإن هم تنافسوا في نفي الدين وأظهروا الاستخفاف بما جاء فيه. يزدرون أديان غيرهم ليحلّوا ديانتهم محلّها.. وينفردوا وحدهم بالإيمان ويكون جميع الأغيار، في فهمهم، كفّارا، وإن احتالوا في وضع المعاجم.. وزيّفوا التعابير.
4. الدين، معتقَدًا، لا يمنع صاحبَه من أن يكون تقدميّا يصنع ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، ولو كان الإله المعبودُ بقرة. ولكن، لأنّ الوطد سلفيّون أصوليون جذريّون، فقد تركوا مختلِف العداوات (البورجوازية والكمبرادور والتبعيّة والاستعمار والإمبريالية والصهيونية..) وأبقوا في جعبتهم على عدوّ واحد هم الإخوان أو الخوانجية أو الإسلام السياسيّ.. ويلتبس الأمر عليهم حتّى ليختلط الإسلاميّ لديهم بالمسلم، إذ هما (المسلم والإسلاميّ) كلامهما يقرآن المتن اللغويّ (القرآن) نفسه باستعمال السجلّات ذاتها.
5. قد تجد من نسل الوطد من يصلّي فيبكي ويصوم ويحجّ ويتزكّى، وهو في ما يفعل صادقٌ لأنّه في تديّنه الوجوديّ إنسان، ولكنّه لا يستطيع أن يتوقّف عند نصّ يقرأه، لأنّ التوقّف عند المقروء قد يفسد يقينا يأتيه من الناس مَن فصلوا فهومهم عمّا يقرأون. تديّنهم، إذا تديّنوا، استجابة لحاجة نفسيّة، إذ يعثر الواحد منهم على نفسه وهو يشقّ صحراء لا ملمح لماءٍ بها إلّا ما كان عطفًا من سماء يهرب إليها هروبا من استبداد العطش الوجوديّ به.
الوطد تقدّميّون ثوريّون في الحياة، وما التقدميّة لديهم سوى ثرثرة تحلو لهم. ولكنّهم في المسألة الدينيّة رجعيّون محافظون لا يختلف أحدهم في تديّنه عن العوام.. يغريهم إيمانُ العجائز لأنّه لا تخترقه أسئلة. الأسئلة مرهقة والوطد مطمئنّون لا قِبل لهم بما يرهق عقولهم المحدودة.. إنهم يبحثون عن طمأنينة هي أقرب إلى طمأنينة الإبل دون أن يمرّوا بأسئلة “ليطمئنّ قلبي”. والنفي الذي لديهم إنّما هو الوجه الآخر للإثبات الذي لدى متطرّفي المتديّنين.. النفي والإثبات كلاهما دِينٌ.
6. حركة النهضة لها في الشعب أنصار، ويمثل هؤلاء الأنصار رصيدها الانتخابيّ الذي يجعل لها مكانا دائما تحت شمس الديمقراطية.. ولأنّ الوطد كسالى لا يتعلّمون ليعلموا ولا يعملون لينفعوا ولا يجتهدون ليصيبوا ويخطئوا، فهم يقبعون عند زواياهم المعتِمة مطمئنّين.. يهربون إلى الأمام بشنّ هجوماتهم على حركة النهضة والإخوان والإخوانجية والتيار الديني الرجعيّ الظلاميّ ويرجمونهم بكلّ جريرة ولا يعرفون جريمة إلّا رموها بها.. ذلك أسهل لهم وأيسر عليهم ولو كان يعني، في ما يعنيه، احتقارا للشعب الذي ينتخب النهضة كلّه.
7. وحتّى يسهّلوا على أنفسهم المعادلة المعقّدة، فهم يهربون إلى الأمام فيتّهمون النهضة بالمتاجرة بالدين في اعتراف بأنّ الدين الرجعيّ الظلاميّ لا يزال تجارة قابلة للرواج إذا وجدت تاجرا بارعا، ويعترفون للنهضة بتلك البراعة.. ويعترفون بأنّ بضاعتهم، هم، غير قابلة للرواج في سوق شعب لا شكّ أنّه يعرف يختار من متعدّد. فإذا كان الشعب يعرف الاختيار فقد فشلوا هم في أن يقنعوه ليختار بضاعتهم، وإن كان لا يعرف الاختيار فبضاعتهم لا تليق به وليس لهم بين ظهرانيه قرار.. ووجودهم معه محض اضطرار.
8. يصرّ الوطد على أنّ حركة النهضة ليست تونسيّة لأنّ مرجعيتها إخوانية، والإخوان المسلمون نشأوا في مصر ردَّ فعلٍ على سقوط نظام الخلافة.. ولأنّ الجماعات المتطرّفة جاءت من رَحم جماعة الإخوان فإنّ النهضة بدورها متطرّفة، ولأنّ تلك الجماعات قتلت السادات الرئيس المصريّ الراحل فهم يجدون مسوّغا ليحرّضوا، كلَّ حاكم يأتي، على النهضة التي كأنّ خالد الإسلامبولي كان من قياداتها. إصرارهم على هذا محض تحريض ووشاية من تيّار ماركسيّ لينينيّ يرى في الدولة أمّه وفي الحاكم أباه يحرّشهما على خصومه الذين لم يستطعهم في ساحات الشرف الرفيع.
ينسى الوطد أنّهم الأولى بألّا يكونوا تونسيين، فإذا كانت مرجعية النهضة مصرية، عربية، فمرجعياتهم شتّى من خارج أرض العرب: إذ هم يرجعون إلى روسيا الستالينيّة وإلى الصين الماويّة وإلى فيتنام وإلى كوريا الشمالية وإلى ألبانيا أنور خوجة ورومانيا تشاوسسكو.
إنّ الوطد إذا تحدّثوا عن الدولة القومية التونسية وعن الخطّ الوطنيّ السياديّ كفّوا عن يكونوا وطدا ولم تعد لهم، بذلك، حركة النهضة خصما، فعلام يصرّون على التماس عداوتها وكيل التهم لها؟
9. يبدو لي أنّ الوطد ظاهرة نفسية جامعة لبعض معطوبي العقل والوجدان، وليسوا ظاهرة سياسية ولا فكريّة.. وحين تقرأ أدبياتهم تفهم معطوبيَتهم وعمادُها: فوضى في الأفكار من جهة وعدوانية على المخالف.. ستجد، وأنت تقرأ لهم، مفردات من قبيل: الرجعية والظلامية والإسلاموية والقومجيّة والتحريفية واليسراوية والخيانة والعمالة والتبعية…
ولا تكاد تجد لهم نصّا صافيا يحمل فكرة لهم في جملة مفيدة ليس فيها هجوم على جهة لا يرون لهم معنى إلّا بالهجوم عليها.. كأنْ لا معنى لهم إلٍا خصومهم،
لذلك هم بارعون في زراعة ألغام التخاصم.