معاوية بن أبي سفيان نظرة أخرى
تيسير خلف
معاوية وطريق الحرير والوثائق التاريخية الصينية
لا تزال غالبية الدراسات التاريخية حول فترة صدر الإسلام تراوح في لحظة الفتنة، ومعركتَي الجمل وصفين، ولا تغادر إلى آفاق جديدة تدرس المتغيرات السياسية والاقتصادية العالمية الناتجة عن توسع الفتوحات في أقاليم كانت تشكل مراحل مهمة من “طريق الحرير البري” بين الصين وبيزنطة، ودخول لاعب دولي جديد، في ضوء ترجمة لمصادر تاريخية غير تقليدية؛ ومنها وثائق الأرشيف الإمبراطوري الصيني. وحين نقول “طريق الحرير”؛ فالمقصود أهم طرق التجارة الدولية خلال ألفَي عام. فبسبب هذا الطريق اندلعت حروب عالمية بين الرومان والفرس، وكانت السيطرة عليه سبب قيام إمبراطوريات واندثار إمبراطوريات؛ كإمبراطوريتَي البارثيين والساسانيين.
كان “طريق الحرير البري” النعمة التي هبطت على الأسرة الساسانية، بعد انقسام إمبراطورية الصين إلى ثلاث ممالك متنازعة، وكان هذا الطريق سبب صراع لم يتوقف بين الروم والفرس طوال ثلاثة قرون من الزمان، حتى بلغ أوجه في القرن السادس الميلادي، حين تمكن الروم من تحقيق اختراق كبير بدعم قيام مملكة صديقة لهم في بلاد الخزر عُرفت باسم “خانية الخزر”، وكذلك انتزاع أرمينيا وشمالي القفقاس من يد الساسانيين، وبذلك أصبح طريق الحرير في أيديهم، وخسر الساسانيون نتيجة لذلك واحداً من أهم مصادر دخلهم، وبالتالي استقرار وقوة دولتهم.
فتح أرمينيا
من اللافت أن يوجه معاوية قائده حبيب بن مسلمة الفهري، لفتح أرمينية عام 646م، في وقت كان يفترض أن يدعِّم فيه قواته في الأناضول، وصولاً إلى البر الآسيوي من بحر مرمرة، لإطباق الخناق على القسطنطينية. ولكن تفكيره كان في مكان آخر؛ إذ إن وصول القائد سراقة بن عبدالله إلى شمالي القوقاز، وفتحه مدينة باب الأبواب عام 642م، أحدث متغيراً استراتيجياً كبيراً، وكان لابد من استكماله بفتح أرمينيا التي كان يمر في أراضيها جزء كبير من طريق الحرير. فهدف معاوية من فتح أرمينية، كما يبدو، كان إحكام السيطرة على هذا الجزء من طريق الحرير، وتحويله من موانئ البحر الأسود، إلى أنطاكية ومينائها سلوقية على البحر المتوسط.
لوحة لمعارك الإمبراطورية الساسانية- أرشيف
ويشير التقرير الصيني المعنون بـ”داشي من تونغديان”، إلى أنه في فترة يونغ هيو، من سلالة تانغ (تعادل 650- 656م) “حضر مبعوثون من بلاد العرب مراراً وتكراراً إلى بلاط ملكِنا؛ لتقديم الهدايا”. واللافت أن هذه البعثة تمت بعد مقتل يزدجرد، آخر أباطرة الفرس الساسانيين عام 649م، على يد سعيد بن عثمان بن عفان، كما تؤكد المصادر السريانية. بينما يغيب، كما هي العادة، اسم سعيد عن المصادر الإسلامية.
ويبدو أن هذه البعثة التي أرسلها معاوية بن أبي سفيان، على الأرجح، إلى الصين، كانت تهدف إلى إقناع الصينيين بعدم مساعدة فيروز الساساني، ولي عهد يزدجرد، من الحصول على مساعدة صينية، وهو ما تم فعلاً، إضافة إلى طرح فكرة اتفاقية تجارية مع الدولة الإسلامية الناشئة.
تقرير صيني عن قوة العرب
وفعلاً أرسل الصينيون وفداً لاستطلاع الأمور، ولكتابة تقرير عن الدولة الإسلامية الصاعدة؛ فكتب المبعوث الصيني، في تقريره المليء باضطراب المصطلحات، ما يلي: “يقال إنه في البداية كان هناك بدوي في منطقة تحت نفوذ الفرس، باركه الإله بسيف يمكن أن يقتل أي شخص. بدأ هذا الرجل في استدعاء البدو الآخرين حوله. كان هناك أحد عشر شخصاً؛ هم أول مَن وصلوا وآمنوا به، وتم تكريسهم كفرسان مثل الملوك الفرس. وقد اتبعه المزيد والمزيد من الناس. وجمعوا في نهاية المطاف جيشاً أطاح ببلاد فارس نفسها، وغزا مدن فولين (بيزنطة) وبولومين (الهند)”.
ويضيف كاتب التقرير: “جميع أعداء العرب لم يكونوا في قوَّتهم. كان لديهم أكثر من 420.000 جندي. وبعد أن يتحدث عن ظهور الرسالة توفِّي الملك الأول (المقصود أبوبكر الصديق)، وتولَّى العرش الفارس البدوي الأوَّل الذي عينه بيده (المقصود عمر بن الخطاب). في وقتنا، تم تتويج الملك الثالث لهذه الدولة (المقصود عثمان بن عفان). لدى رجالهم أنوف طويلة وكبيرة، وهم نحيفون وذوو بشرة سمراء، ولهم لحى كاملة، ونساؤهم جميلات. لديهم أيضاً شكل من أشكال الكتابة، على الرغم من أنها كانت مختلفة عن كتابة بلاد فارس. أرضهم تحتوي على العديد من الحيوانات المختلفة؛ بما في ذلك الجمال والخيول والحمير والبغال والظباء. لم تنجح الزراعة في أرضهم التي تتكون من الصخور والرمال؛ وبسبب هذا، كان نظامهم الغذائي يتكون في الغالب من لحوم الجمال والخيول واللحوم الأخرى. بعد فتح بلاد فارس وبيزنطة، بدأ العرب بتجارة الأرز ودقيق القمح. كما يُقال إن الملك غالباً ما يُرسل السفن التجارية إلى البحر محمَّلةً بالملابس والأطعمة”.
انتصار معاوية على البيزنطيين
وثمة تقرير صيني آخر يتحدث عن اضطراب العلاقات مع الدولة البيزنطية في عهد الإمبراطور الصيني يانغ تي، من سلالة سوي الذي حكم من 605 وحتى 617م، وهذه الفترة هي مرحلة الهزيمة الكبرى للروم البيزنطيين أمام الفرس الذين احتلوا أقاليم الشرق كلها؛ بما فيها بلاد الشام ومصر. ولكن التقرير يشير إلى أن البيزنطيين عادوا ليرسلوا وفداً لإعادة العلاقات في السنة السابعة عشرة من فترة تشنغ كوان، التي تعادل عام 643م، والظاهر أن الصينيين تريثوا وأرسلوا مبعوثاً، فوجدوا العرب قد احتلوا البلاد البيزنطية، وأن قائدهم معاوية (مذكور بالاسم) أرسل قوات لمحاصرة عاصمتهم؛ أي القسطنطينية. ويذكر التقرير أن معاوية انتصر وفرض الجزية على البيزنطيين. وهذا الكلام يتطابق تماماً مع الرواية السريانية التي تحدثت عن محاولة معاوية الأولى لفتح القسطنطينية وقبوله بالهدنة مع الروم، مقابل جزية كبيرة بسبب الفتنة التي أدت إلى قتل الخليفة عثمان عام 656م. ويخلص التقرير الصيني إلى أن تكملة الطريق، أي تلك التي كانت بيد البيزنطيين، قد أصبحت بيد العرب.
طريق الحرير
كان من نتيجة ذلك أن تغير مسار طريق الحرير، وأصبحت المسافة من مدينة الدربند (باب الأبواب) في داغستان الحالية، إلى أنطاكية، كلها بيد العرب المسلمين؛ الأمر الذي أدى بالصينيين إلى قبول التعاطي مع العرب، فكان من نتيجة ذلك حصول الدولة على عائدات خيالية، خلقت حالة من الرخاء شعر بها جميع رعايا الدولة، وقد عبَّر الصحابي الساكن في دمشق، أبو الدرداء، المتوفى عام 659م، عن ذلك بحديث نقله ابن عساكر في تاريخ دمشق: “لا مدينة بعد عثمان، ولا رخاء بعد معاوية”.
هذه واحدة من القضايا الكثيرة غير المدروسة في تاريخ صدر الإسلام؛ وهي تستحق أن تستدعي دراسات ومباحث أكاديمية كثيرة، خصوصاً أن المصادر التاريخية باتت أكثر تنوعاً، وهو ما يتيح للباحث التاريخي المعاصر فرصة إعادة النظر في التراث التاريخي العربي الإسلامي، المحمل بوجهات نظر منحازة حيال معاوية بن أبي سفيان خصوصاً، والأمويين عموماً.