“دراما الانحطاط” أو لماذا هاجر النقّاد إلى قبورهم؟
حاتم التليلي محمودي
تحاول هذه الورقة توجيه القرّاء إلى نقطة بعينها، تلك التي يفيض منها سؤال النقاش الدائر حول المنتوجات الفرجوية والأعمال التلفزيونية التي توغّلت في صناعة الانحطاط إذ ليس من مهامّها الآن غير التطبيع مع ما نعيشه من كوارث وغير تجميل الفظيع. ليس المريع في الأمر خطر هذه الأعمال وانعكاساتها السلبية على المجتمع كما يتوهّم البعض، وليس المريع في الأمر إمكانية عودة الرقابة بعد أن تجرّأت بعض الآراء للمناداة بإيقافها، وليس المريع في الأمر شكل النقاش الذي اتخذ حالة من الهستيريا المعمّمة تجاهها. الخطر كلّ الخطر هو أنّها باتت تصنع الحدث الآن، أمّا ما يجري في فلكها فمحاولات بافلوفية لفهمها أو شرحها أو الاعتراض عليها، وهذا ما يجعلها مثابة الثقب الأسود الذي يجرف كلّ شيء في ظلمته دون أن تضاهيه طاقة أو قوّة أخرى: نعم، لقد تورّط الجميع في هذا الحدث الذي تمّت صناعته لأنّه ما من حدث فرجويّ آخر استطاع جلب الانتباه إلى أطروحاته الجمالية والفكرية والثقافية.
إنّ الفراغ هو ما يولّد هذه العفونة الفرجوية التي نشاهدها اليوم تحت مسمّى الدراما التلفزيونية، هو ما يولّد هذا النقاش العقيم، هو ما يولّد معارك الرّعاع لأنّ المسألة الفنية والجمالية لا تستحقّ فعلا اهتماما بما يمكن أن نطلق عليه “الخردة الفنيّة” التي ليس من شأنها غير تدمير عبق الفنّ وتسطير نهايته الفظيعة.
ولكن كيف نوقف تيّار التفاهة هذا؟ كيف نضع حدّا لمسارات التخريب هذه؟ كيف يمكن الاعتراض على الفيروسات الفرجوية تحت مسمّى المسلسلات الرمضانية؟ بماذا نفسّر غياب أعمال درامية في حجم تطلّعاتنا الفكرية والجمالية؟ طبعا، ليست الإجابة متعلقة بانعدام وجود الكتّاب أو المخرجين أو شركات الإنتاج كما يفسّر ذلك البعض من المختصين. المسألة برمّتها متعلّقة باكتساح السوق لعوالم الثقافة، السوق بوصفها مصنعا مرعبا من شأنه سلعنة كلّ شيء، من شأنه تدمير عبق الأيقونة وتبضيعها، من شأنه الاستهلاك لا غير، ومن شأنه إنتاج المسوخ لا أكثر.
نعم، سوف تتواصل رعاية هذا الانحدار العنيف تحت توقيع حفّاري القبور، سوف تتواصل هذه المنتوجات الفرجوية لأنّها وجبة سريعة الاستهلاك، سوف تتمّ عملية رفضها من قبل قلّة من النخبة هم لا يقلّون عنها انحطاطا فكريّا لأنّهم سقطوا في مهنة كلب بافلوف بدل أن ينتجوا مشاريعهم البديلة، سوف تتواصل حفلات العواء باسم هذا النقاش العقيم الذي تمّ تفجيره على يد النقابات والمربّين والمحامين وبعض الإعلاميين والفنانين، سوف يتواصل الرقص على أنقاض هذا الخراب، سوف يتواصل هذا المشهد السيزيفي في كلّ مرّة أمام انعدام وجود مشاريع مغايرة.
ولكن، ماذا عن صمت النقّاد والمختصين؟ لماذا غربت أصواتهم؟ لماذا لم نعد نسمع لهم صوتا في الحياة الثقافية والفنية؟ كيف تمّت عمليّة تقطيع أوصالهم بشطب وجودهم من النقاش الدائر؟
لقد مات هؤلاء. نعم لقد ماتوا جميعا ولم تعد ثمّة غير عظامهم المطحونة طحنا، لقد غربت سلطتهم ولهذا يجب أن تصمت تلك الأطروحة البالية التي تدعو إلى تكميم أفواه عموم الجمهور ومنعه من تقييم الأعمال الدرامية ونقدها. إنّها تدّعي أنّ هذا الأمر يعود إلى النقّاد والمختصّين وحدهم، ولذلك فهي تنشأ كردّة فعل رافضة لهستيريا الآراء التي عجّت بها المحيطات الأقيانوسية في شبكات التواصل الاجتماعي من قبل المشاهدين والمتلقين. طبعا، ليس من شأننا الآن خوض معركة فكرية أو جماليّة تكنس مواقف العابرين غير المختصين، لأنّه يستحيل اليوم النجاح في ذلك، كما أصبح مستحيلا توجيه مستهلكي تلك الأعمال إلى عمل بعينه. إنّ ما يثير الانتباه هو ذلك الادّعاء الذي يبحث عن سلطة النقّاد مجدّدا، وهو ادّعاء ساذج بإطلاق، فالمرحلة السلطوية غير الديمقراطية التي ينتمي إليها هؤلاء النقّاد انتهت، أمّا دورهم اليوم فشبيه بإقامة باردة في جوف القبور، وما يجري الآن من لغط فعلامة مضيئة ومروّعة على تأبينهم، أمّا تلك الآراء التي يطلقها الجمهور الواسع فغير محتاجة إلى انتظار مدّعي الخبرة الجمالية.
إنّ هذا العواء الجماهيري – الذي يسعى بشكل هستيري إلى تقييم تلك “الخردة الفنّية” المسمّاة دراما تلفزيونية-، لهو أشبه بحفلة رقص بدائيّ على قبور النقّاد المختصين وتوقيع نهايتهم على نحو فظيع وبشع. لقد شاءت “قوى الدمقرطة” توجيه حرابها إلى صدور النقّاد أيضا، ويذكر (رونان ماكدونالد) في كتابه (موت الناقد) أنّ هذا الأمر شهد تسريده منذ حركة 1968 وأحداث انهيار السرديات الكبرى برمّتها.
سوف نتّفق الآن أنّ كلّ شخص تحوّل إلى “ناقد”، يستهلك ما يريده من المنتوج الفرجوي ويقيّمه في الآن نفسه، أو يرفضه لأسباب ذوقيّة خاصّة به. وهنا سوف يُعْتَرَضُ علينا بالقول: كيف يمكن منحه صفة النّاقد؟ ربّ مكر في هذا السؤال سيجعلنا نتخطّاه بسؤال مضادّ: ومن نحن حتّى نهب صفة النّاقد أو ننكرها على الأشخاص؟ أيّها السادة، نحن ليس من حقنا لعب دور الكهّان!
إنّ السؤال المطروح ما كان يجدر بكم طرحه أساسا، فبموت النقّاد أو تراجع دورهم سيحقّ لكلّ فرد تنصيب نفسه كناقد، ولكنّه ناقد استهلاكي على نحو مريع، وغير مختصّ، ولا يأبه لأسلافه القدامى من النقّاد الذين يقرّرون بدلا عنه الخبرة الجمالية وربما يوجّهه بعضهم إلى عمل دون سواه.
نحن لا نصدّق موت النقّاد: هكذا تأتي صرخة البعض من المحتجّين على الأعمال الدرامية وهي محض غثيان جمالي، وعلى آراء الجمهور العريض وهي محض هستيريا استهلاكية !
بلى، لقد مات النقّاد بتقلّص النقد الأكاديمي وانهيار “المؤسسات ذات الطابع التراتبي الهرمي” كما وقّع (رونان ماكدونالد) ، ولقد مات النقّاد بانفجار المحيط الأقيانوسي الذي تحوّل إلى سوق تعجّ بآراء الجمهور والإعلاميين والكتاب غير المختصين، وبمثل ذلك سقط موقعهم وسط ذلك الغبار النقدي والضجيج الكلاميّ، ولقد مات النقّاد لأنّهم اليوم أمام توحّش السوق أصبحوا مجرّد خدم مطواعين يبحثون عن شكل معيشيّ رخيص على حساب المبدعين، ولقد مات النقاد لأنّهم لن يقدّموا خدمات ربحية للمنتوج الفرجوي أو الدرامي وبدلا منهم حلّ الإعلاميون على نحو مريع ضمن طقوس الدعاية أو الخضوع لمتطلبات السوق؛ إنّ مشهد موتهم الآن لهو مشهد مُذلّ وبالغ الضراوة في الانتقام من سلطتهم القديمة!
هل يحتاج المنتوج الفرجوي الآن إلى نقّاد كأولئك الذين كنّا نتحدّث عن موتهم؟ طبعا لا، وربما نرجّح الأمر إلى سببين: الأوّل هو أن تلك الأعمال الدرامية لا ترتقي إلى مرتبة النّقد من وجهة نظر فنّية، إنّها مجرّد بضاعة يتمّ سلعنتها ثقافيّا في سياق هذا الفراغ الجمالي المرعب، وحتّى وإن ظهرت الجدّية على بعضها فهي لن تترك أثرا جماليا على الإطلاق، لأن مستهلكها سينساها بمجرّد نهايتها، إنّها وجبات سريعة ولذيذة الطعم في ظلّ هذا النسق السريع من توحّش السوق. أمّا الثاني فهو مرتبط تمام الارتباط بمنتجي تلك الأعمال الفرجوية، إذ يرون في النقاد مجرد “خصيان وسط الحريم، إنهم يعرفون كيف تجري العملية وهم يشهدون ممارستها كل يوم، لكنهم لا يستطيعون أن يفعلوها بأنفسهم” ( العبارة لرونان ماكدونالد)، ولذلك فهم في حاجة إلى خدم نفعيين من إعلاميين ومدونين يجعلون من أعمالهم توصف بالظاهرة أو هي من تصنع الحدث الفرجوي والجمالي.
على هذا النّحو من الفظاعة المريعة، سنرى أنّ ما يجري الآن لا يمتّ بصلة إلى اجتراح أفق معرفي/نقدي، بقدر ما هو ضرب من الدعاية القائمة على التنافس والاستثمار في الآن نفسه، إذ تجري بطريقة لا مرئية عملية تحطيم بعض الأعمال على أن ترجّح الكفّة إلى قرينتها الأخرى، وهذا نتيجة طبيعية لمنطق السوق أين تدور رحى المال والإعلام، وأين يجد الملتقي نفسه مجبرا على اختيار هذا أو ذاك دون أدنى قدرة على نفي الكلّ بوصفه ذلك الكائن الاستهلاكي الذي يرى في العمل الفني مجرّد وجبة تحقق لذة مّا، أو يرى في بعض المشاهير نوعا من الانعكاس الذاتي له ولنقصانه. على النحو نفسه، يتورط الفنانون في ذلك، وهذا سلوك منبته الرعب والخوف، ومحرّكه الرغبة في التموقع مع هذا المخرج أو ذلك المنتج دون غيرهما.
إن ما يجري الآن، لهو ضرب من شموخ السوق وهيجانه إلى أقصى حدّ، إذ يتحول كل شيء إلى بضاعة مسلعنة، لا قيمة لها غير تشغيل القيمة في ما يمكن أن يسمى بالخردة الفنية؛ أين يستحضر كل شيء مهما كانت فرادته بغاية تدميره والإلقاء به في بورصات الثقافة لهذا العصر الذي “يعصر فيه الإنسان عصرا إلى أن يخرج من بطنه الدقيق”، عصر “كلاب فلاسفة الثقافة بعبارة “أدورنو”، عصر ليس من مهماته غير تصريف الاحتفاء بالرديء والساذج.
هكذا تمّت عملية سلخ النقّاد عن جلودهم، هكذا تمّت عملية تقطيع أوصالهم، هكذا تمّت عمليّة شطبهم. بدلا منهم، صار يتمّ الاحتفاء اليوم بآراء عموم الجمهور تحت رعاية “قوى الدمقرطة” التي لم تفرز بدورها غير نقد شعبوي صرنا نقرأه يوميّا على صفحات التواصل الاجتماعي وهو لا يقلّ خطرا على تلك المسوخ الفرجوية التي يعترض عليها، لأنّه لا يؤسس للفكر، لا يؤسس للجمال، بل هو إمّا يتورّط في صناعة القبيح أو يبشّر بعودة الرقابة من جديد.
ما يجري الآن هو المزيد من تخصيب الشوك ورعايته في الصحراء الثقافية التي تمتدّ وتزداد اتساعا، تزداد توحّشا بتوحّش الواقع الاجتماعي والسياسي، وتزداد من خلالها طقوس جَرْذَنَةِ البشر وقَرْدَنَتِهمْ على نحو بشع لا يطاق.
والآن، لنتكلّم بقوّة النقد على نحو مختصر جدّا: نعم، لقد مات النقاد وتم استبعادهم، ولكن النقد لا يموت، يكفي فحسب أن نبحث عن مهماته، تلك التي لا تكتفي بتدمير “الخردة الفنية” بل تدمّر معها الآراء النقدية والانطباعية الغاضبة التي ترفضها، لأنهما اشتركا معا في إنتاج البشاعة وتأبيد وجودها.
إنّ ما يجب أن يستشعره النقد الآن ليس الانخراط في مواجهة شموخ السوق وهيجانها باسم المسوخ التي توغّلت في إنتاج الانحطاط الفكري والجمالي، بل عليه المضيّ قدما في تأبين هذه المهمّة ما دامت تحشره في مهنة التبعيّة والمواجهة وهي ليست مهمّته. عليه أن يتركها لعموم الضفادع السائبة في غدير الآراء والانطباعات الانفعالية. ما يجب أن يستشعره النقد هو الضرورة القصوى لتأثيث الفراغ حتّى لا تتوغّل مساحة السوق تلك، أمّا كيف يمكن ذلك فمن الضروري جدّا الانتقال من مهمّة متابعة الحدث إلى صناعته. من يتبع الحدث يعجز عن إزاحته لأنه سجين دائرته، ومن يصنع الحدث فهو في مقام المقاومة.
لن يولد هذا النقد ولن نشاهده في ساحاتنا إلا بولادة أعمال فنية مضادّة لتوحّش السوق، ولأنّ هذا الأمر من باب الاستحالة الحالية، فإنّ من المهمات الآنية لهذا النقد هي أن يكون استراتيجيا، أي أنّه يركّز اهتمامه أكثر من أيّ وقت مضى على سبل ولادة الأعمال الإبداعية تلك، عليه أن يرافق المبدعين في الطرق الوعرة أين يمكن تعبيد المستقبل بعيدا عن مدن المسوخ. ولأنّه يجب أن يوجد على هذا النّحو الآن فمن واجبه إحداث زلزلة مهولة في نظام السوق.
ولكن، من سيتكلّم باسم هذا النقد؟ من هم ممارسوه؟ وتحت أيّ راية يجب أن يتحدّث؟ وتحت رعاية من؟ وكيف له أن يضمن استمراريته دون مؤسسات ومراكز دراسات ومخابر وبحوث مستقلة؟ ما هو مشروعه الفكري والجمالي أمام عقم القرارات السياسية؟
نعم، ثمّة إمكانية للإجابة عن مثل هذه الأسئلة، ولكنّها لن تكون إلّا بفتح ورشة جماعية عملاقة للتفكير.