أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ
محمد بن جماعة
منذ سنوات، في أحد أيام 2015 تحديدا، وفي الطريق للعمل، رافقني جار جزائري أكبر مني سنّا، فتجاذبنا أطراف الحديث حول التوترات الحاصلة في تونس (جريمة سوسة) والجزائر (غرداية). ثم انتقل الحديث إلى المتكلمين باسم الإسلام، والمتكلمين باسم الإنسانية، وأن أكثرهم (إلا القليل) متاجرون بالحق والقيم الأخلاقية، ولا أحد منهم يمثل قيم الإسلام ولا قيم الإنسانية.
وقال لي الجار:
منذ سنوات انقطعت تماما عن الخوض في تفاصيل الدين والخلافات الفقهية والسياسية والعقائدية، وقاطعت قراءة الكتب الدينية.. ورضيت بالقليل من فهم الدين الذي يجعلني أشعر بالسكينة وراحة البال في عبادتي وعلاقتي بالله..
شعاري في ذلك، الحديث النبوي الصحيح: أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ (ص): مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (ص): مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ (ص): أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ..
قلت له:
صدقت والله.. كثير منا (وأنا منهم) يتوهم أن كثرة الاطلاع والقراءة والجدل المعرفي والمعرفة بالجزئيات والتفاصيل والاختلافات الفقهية والعقائدية هي التي ستطور علاقته بالله. ولكن بعد سنوات من مثل هذا الجهد يكتشف أن ما تحصل عليه ليس أكثر من تكدير للنفس..
وقلت له:
حالنا في هذا مثل حال من يريد السباحة في البحر.. فعندما لا تكون لديه قدرات جيدة يكتفي بالسباحة قريبا من الشاطئ، في مياه غير عميقة. ويجد لذة ومتعة في ذلك..
وكلما اكتسب قدرات ومهارات أكثر، يعمد إلى الدخول في مياه أكثر عمقا.. ويبتعد أحيانا عن مكان سباحة الناس، باحثا عن لذة أكبر ومتعة أكبر يوفرها له تحدي المياه العميقة..
ولكنه ما يلبث أن يدرك حجم المخاطر والإرهاق الذي تسببه السباحة في الأعماق، من وجود دوامات أو أمواج هائلة قد تهدد حياته.. وفي فترة ما يقرّر أن الوقت حان للتخلي عن السباحة بعيدا، والاكتفاء بالسباحة قريبا من الشاطئ مع العائلة والأصدقاء والصغار، حيث يجد الأُنْس والسكينة.
حديث (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) يشير إلى أن جوهر التدين في أبسط أوضاعه التي يصل بها الإنسان إلى اجتياز امتحان الحياة بنجاح والمرور للآخرة في أفضل مكان، إنما هو مسألة قلب واستعداد ذهني وعقلي (attitude) بالأساس. وليس قضية تفاصيل فقهية واعتقادية.
فدخول الجنة لا يستلزم المعرفة الواسعة والعميقة، بقدر ما يستلزم الاستعداد النفسي والعقلي الذي يتطلبه الإيمان بالله واليوم الآخر. وهذا يعني النظر في ثلاثة أمور:
أولها:
النظر للعلاقة مع الله كعلاقة حب عميق ودائم: حب اعتراف بنعم الله علينا، وبجميل صنعه فينا، وحب طاعة وامتثال لأوامره واجتناب لنواهيه، ليس من باب الخوف أو التقييد لحرية الإنسان، وإنما لأن الاستصحاب اليومي لهذه الأوامر والنواهي هو الذي يؤدي إلى نمو ونضج الإنسان روحيا ونفسيا وعقليا واجتماعيا، مثلما ما يفعل الآباء مع أبنائهم.
وثانيها:
النظر للعلاقة مع النبي (ص) كعلاقة حب دائم ومستمر: حب اتباع وتشريف وتوقير وحب ثقة تامة في ما يقوله وينقله، ليس لخصيصة فوق-بشرية ترتفع به لمقام الملائكة، وإنما لكونه واسطة الهداية للحق ولله. مثلما ما يفعل الآباء مع أبنائهم، أيضا. وهذا الحب متفرّع عن محبة الله، ولا يمكن لمن أحب الله ألاّ يحب رسوله:
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ، فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).. وفي الحديث الصحيح: “أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِي لِحُبِّ اللَّهِ، وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي لِحُبِّي”.
وأيضا: “لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ”.
وأيضا: “ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ (ص) رَسُولاً”.. الرضا والحب.
وثالثها:
النظر للعلاقة برسالة الإسلام وقيمه كعلاقة حب والتزام دائم ومستمر: حب الحق، والخير، والجمال، والعدل، والصدق، والأمانة، والسلام، والتراحم، والعفو والتسامح، والصبر، والأخوة، وحسن الجوار، والأدب، إلخ.
“ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ:
– أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا،
– وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ،
– وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ”.. حب قيم الإسلام، وكراهية كل قيم الكفر المناقضة لها (الباطل، الشر، القبح، الظلم، الكذب، الخيانة، الحرب والعنف والإرهاب، القسوة، العناد، الحدة، العداء، الإساءة للآخر، إلخ).. هذه هي حقيقة الإيمان.
يبقى السؤال:
كيف نتمكن من مقاومة ضغوط التعقيدات الحياتية التي يجد فيها الإنسان نفسه في داخل شبكة اجتماعية قائمة على الخلاف والنزاع والمشاكل والصراعات؟ كيف نتخلص من تدين التعقيد والجزئيات والتفاصيل، إلى تديّن الفطرة السليمة، تديّن السكينة والحب؟