تنظيم سد الشغور في منصب رئيس الدولة في التجربة الدستورية في تونس بين الوجود والغياب
عبد السلام الككلي
التداول السلمي على السلطة بعيدا عن الحروب والفتن جاءت الدساتير الحديثة لتجعله يحصل وفق مبادئ وقواعد منصوص عليها في نص سابق واضح غير قابل لأي نوع من التأويل. جاء الدستور أولا وقبل أي شيء أخر ليجعل من عملية الانتقال عملية سلسة أمنة تقي البلاد الصراع على السلطة الذي يصل في الكثير من الأحيان حد الحرب الأهلية. ولخطورة هذا الموضوع تقدم الدساتير صيغا متفق عليها لتحقيق التداول السلمي على السلطة في حال وجود شغور على رأس الدولة سواء في الأنظمة الملكية الخاضعة لمبدأ الوراثة أو الجمهورية التي ينتخب فيها الرئيس سواء انتخابا مباشرا من قبل الشعب أو بواسطة البرلمان. ولأهمية هذا الموضوع وبالنظر إلى الجدل الذي قام في تونس في الأيام الأخيرة بعد غياب الرئيس لمدة احد عشر يوما وقبل ظهوره يوم الاثنين 3 أفريل 2023 حول آلية سد الشغور في منصب الرئاسة في حال حصول هذا الشغور في المنصب اليوم، فإننا سنستعرض في هذا المقال بأكثر ما يمكن من الدقة التجربة الدستورية في تونس في موضوع الاستخلاف من دستور 1861 إلى دستور 2022. لا غرض لنا من هذا غير المساهمة في تخليص المسألة من جو الشائعات والأراجيف التي طغت هذه الأيام والتي لا تنفع أحدا. نحن نبغي من هذه الورقة تقديم مادة خصبة في الحدود التي يسمح بها هذا الحيز للتفكير والتدبر.
1. دستور 1861
خصّص هذا الدستور بابه الأوّل لقانون آل بيت مملكة الحسينيين وعالج في فصله الأوّل في أسلوب غير مباشر مسألة الشغور النهائي في منصب رئاسة الدولة دون استعمال مصطلح الشغور فنصّ على أنّ أكبر البيت الحسيني يتقدّم لولاية المملكة عند انقضاء سلفه على عادة آله المقرّرة المألوفة فهذا الفصل يقر عرفا اتبعه الأمراء الحسينيون إذا جدّ الشغور النهائي في منصب الملك يتقدّمهم أكبرهم سنّا ليجلس على عرش المملكة ويصبح ملكا.
إنّ الشرط الأوّل للتقدّم الى منصب الملك هو الانتماء الى العائلة الحسينية سليلة حسين بن علي تركي مؤسس البيت الحسيني والشرط الثاني هو أن يكون المتقدّم أسنّ الأمراء الحسينيين أي أكبرهم في السن ولم يستثن هذا الفصل إلاّ فرضية عجز الكبير عن خدمة المملكة فيقدّم عليه من هو اصغر منه سنا بشرط أن يكون قادرا على خدمة المملكة.
ولم يشترط هذا الفصل أن يكون المؤهل لمنصب الملك ذكرا وربّما في ذلك الزمن لم يكن حصر السلطة في يد الذكور موضوع نقاش وبيّن الفصل الثاني أن جميع ما يقع في البيت الحسيني من ولادة ووفاة يسجّل في زمامين يصححهما كل من الوزير الأكبر ورئيس المجلس الأكبر.
لكن لئن تطرّق هذا الدستور الى مسألة الشغور في منصب رئاسة المملكة التونسية فإن المجلس القومي التأسيسي لم يتطرّق لهذه المسألة في قراره الصادر يوم 25 جويلية بإلغاء المملكة إلغاء تاما وبإعلان تونس دولة جمهورية.
2. قرار المجلس القومي التأسيسي يوم 25 جويلية 1957 ومسألة سد الشغور
قرر المجلس القومي التأسيسي يوم 25 جويلية 1959 ما يلي:
- أ. إلغاء النظام الملكي إلغاء تاما.
- ب. إعلان تونس دولة جمهورية.
- ج. تكليف رئيس الحكومة الحبيب بورقيبة بمهام رئاسة الدولة على حالها الحاضر ريثما يدخل الدستور حيز التطبيق وأطلق عليه لقب رئيس الجمهورية.
- د. تكليف الحكومة بتنفيذ هذا القرار وباتخاذ التدابير اللازمة لصيانة النظام الجمهوري وكلّف كلاّ من رئيس المجلس والأمين العام لمكتب المجلس والحكومة بإبلاغ هذا القرار إلى الخاص والعام.
من الغريب أن المؤسسين لم يتطرقوا في هذا القرار إلى حالة الشغور الممكنة في منصب رئيس الدولة في الفترة الممتدة بين يوم إعلان قرارهم بتكليف الحبيب بورقيبة رئيسا لها ويوم دخول الدستور حيز النفاذ أي في الحيز الزمني بين 25 جولية 1957 تاريخ إعلان تونس دولة جمهورية وبين تاريخ إتمام انتخاب رئيس الجمهورية وإتمام انتخاب مجلس الأمّة واجتماعه علما أن أوّل انتخابات تشريعية في تونس المستقلة جرت يوم 8 نوفمبر 1959 فلم ينصوا في قرارهم المؤرخ يوم 25 جويلية 1957 على كيفية سد الشغور في حال حدوثه في منصب رئاسة الدولة سواء كان شغورا وقتيا أو نهائيا.
3. دستور 1 جوان 1959
أ. في غياب مسألة سد الشغور
ينص الفصل 63 من دستور 1 جوان على أن رئيس الجمهورية يختم الدستور ويصدره يوم 1جوان 1959 في اجتماع المجلس القومي التأسيسي الذي يبقى قائما إلى أن يتمّ انتخاب مجلس الأمة واجتماعه.
وينص الفصل 64 على دخول الدستور حيز التطبيق ابتداء من تاريخ إصداره طبق الفصل 63 «وريثما يتمّ انتخاب رئيس الجمهورية ومجلس الأمة خلال شهر نوفمبر 1959 فإن النظام الحالي الناتج عن قرار المجلس القومي التأسيسي الصادر في 26 ذي الحجة 1376 وفي 25 جويلية 1957 يستمر كما هو…».
من الغريب هنا أيضا أن الدستور المصادق عليه من قبل المجلس القومي التأسيسي في 1 جوان 1959 لم يتعرض هو أيضا في أحكامه الانتقالية إلى مسألة الشغور في منصب رئاسة الدولة في الفترة الممتدة بين يوم ختمه في 1 جوان 1959 وبين يوم بدء مجلس الأمة المنتخب يوم 8 نوفمبر 1959 نشاطه.
وبطبيعة الحال لا يمكن أن يكون قصر الفترة الزمنية الممتدة بين شهري جويلية ونوفمبر من نفس السنة 1959 سببا مقبولا لعدم التطرّق لهذه المسألة ذات الأهمية القصوى إذ أن الشغور في منصب رئاسة الدولة سواء بالموت أو بالمرض المزمن أو لأيّ سبب آخر يمكن أن يحدث في أي وقت مما يستدعى التنبه له فليس من الممكن تصور حالة من الفراغ على رأس الدولة ولو لحظة واحدة نظرا لأهمية تنظيم عملية الانتقال التي تقي الدولة مخاطر الفتنة والفوضى.
ب. الدستور ينظم حالة الشغور
ينص الفصل 51 من دستور 1 جوان 1959 في صيغته الأولى:
أولا. على حالات الشغور الحاصل في منصب رئاسة الجمهورية وهي الوفاة أو الاستقالة أو العجز الثابت.
ثانيا. على كيفية سدّ هذا الشغور الذي يتمّ على مرحلتين:
- يعين أعضاء الحكومة من بينهم من يتولى مهام رئاسة الدولة بصورة وقتية ويبلّغون فورا الى رئيس مجلس الأمة وثيقة هذا التعيين.
- يجتمع مجلس الأمة بدعوة من رئيسه قصد انتخاب خلف للرئيس السابق لما بقي من مدّته من بين المترشحين المتوفرة فيهم شروط الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية أثناء الأسبوع الخامس ابتداء حالة الشغور ولا يمنع هذا الفصل عضو الحكومة الذي تولّى مهام رئاسة الدولة من الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية والذي يمكن له استغلال السلطة التي بيده والسعي لتزييف الانتخابات وهو ما يبرّر في كثير من النصوص الدستورية تحجير الترشّح لرئاسة الجمهورية لمن يقوم بمهام رئاسة الدولة اثر شغور جدّ في هذا المنصب.
وينص الفصل 63 على أن رئيس الجمهورية يختم الدستور ويصدره يوم 1 جوان 1959 في اجتماع المجلس القومي التأسيسي الذي يبقى قائما الى أن يتمّ انتخاب مجلس الأمة واجتماعه.
وهكذا ترك امر سد الشغور في الصيغة الأولى للدستور الى أعضاء الحكومة وهو أمر كان ينطوي على كثير من المخاطر لا سيما وان البلاد كانت تعيش انقساما بسبب الخلاف بين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف.
إن حل لمسألة سدّ الشغور في رئاسة الدولة يكون مبدئيا بقرار (أو بنص) سابق ومعلوم لدى العامة والخاصة الذين بموجبه يكونون على علم مسبقا بمن سيشغل منصب رئاسة الدولة اذا ما استجد فيه شغور لتجنّب حصول صراع حول هذا المنصب وقد يتحوّل الى نزاع دموي والحل في تعيين شخص بعينه لتولّي المنصب مما يلغى أي جدل حوله عند الاقتضاء.
ج. مجلس الأمة يراجع نفسه
إنّ مرض الرئيس الحبيب بورقيبة في آخر ستينات القرن الماضي دفع الى تدارك الخلل الوارد في الفصل 51 في صيغته الأولى والى تعديله بالقانون الدستوري عدد 63 لسنة 1969 المؤرخ في 31 ديسمبر 1969 الذي لم يختمه الرئيس الحبيب بورقيبة وإنّما ختمه نيابة عنه وبتفويض منه الوزير الأوّل الباهي الأدغم وأصبح الفصل 51 يضمّ فقرتين خلافا لصيغته الأولى حيث لم تكن به سوى فقرة واحدة.
وموضوع الفقرة الأولى هو فرضية التعذّر على رئيس الجمهورية القيام بمهامه بصورة وقتية فيفوض كامل سلطاته او البعض منها إلى الوزير الأول ويعلم بهذا التفويض رئيس مجلس الأمة وفرضية التعذّر الوقتي هي إضافة في هذا الفصل فرضها الوضع الصحي غير الجيد للرئيس الحبيب بورقيبة.
وأمّا موضوع الفقرة الثانية فهو الشغور في منصب رئاسة الجمهورية لسبب الوفاة أو الاستقالة أو العجز التام والمقصود به الشغور النهائي رغم عدم توصيف الشغور بالنهائي وكان العجز يوصف في الصيغة الأولى بالثابت وبعد التعديل صار يوصف بالتام.
إذا حصل الشغور النهائي يتولى فورا الوزير الأول مهام رئاسة الدولة لما بقي من المدة الرئاسية ويوجه رسالة الى رئيس مجلس الأمة ويؤدي اليمين الدستورية أمام مجلس الأمة وعند التعذر أمام مكتب مجلس الأمة أو أمام رئيس مجلس الأمة.
ولا شك أن لهذا التحوير التحوير الأخير علاقة بوضعية بورڨيبة الصحية.
د. الرئاسة مدى الحياة
اعلن مجلس الأمة في القانون الدستوري عدد 13 لسنة 1975 المؤرخ في 19 مارس 1975 ما يلي:
ا – «إستناد رئاسة الجمهورية مدى الحياة الى الرئيس الحبيب بورقيبة»
ونظرا الى الصبغة شبه الملكية لمنصب رئاسة الجمهورية الذي يبقى شاغله في منصبه مدى الحياة لم يعتمد التعديل في الفترة التي يشغل فيها الوزير الأول منصب الرئاسة وقتيا على ما بقي من المدة الرئاسية بل صار الاعتماد على المدة النيابية الجارية لمجلس الأمة.
ه. المجلس يجوّد مسألة سد الشغور
ولمزيد توضيح مسالة الشغور جاء تحوير 1976 بعناصر جديدة ذات أهمية قصوى لأنها تتصور جملة الحالات التي يمكن أن تحدث لرئيس الجمهورية أولا وثانيا لمن ينوبه في المرحلة الانتقالية فينص على الحالات التالية:
الشغور الذي يخص رئيس الجمهورية بسبب الوفاة أو الاستقالة أو العجز التام وفي هذه الحالة يتولى فورا الوزير الأول مهام رئاسة الدولة لما بقي من المدة النيابية الجارية لمجلس الأمة ويوجه رسالة الى رئيس مجلس الأمة ويؤدي اليمين الدستورية أمام مجلس الأمة وعند التعذر أمام مكتب مجلس الأمة أو أمام رئيس مجلس الأمة.
واذا حصل للوزير الأول في نفس الوقت مانع لسبب من الأسباب المذكورة أعلاه يتولى رئيس مجلس الأمة بصفة وقتية مهام رئيس الجمهورية باستثناء المهام المشار إليها بالفقرة الثانية من الفصل الثاني (إبرام المعاهدات التي قد يترتب عنها تحوير ما لهذا الدستور) وبالفصول 46 و 47 و 63.
واذا حصل لرئيس مجلس الأمة بدوره مانع لسبب من الأسباب يتولى وزير العدل بصفة وقتية مهام رئيس الجمهورية باستثناء المهام المشار إليها بالفقرة الثانية من الفصل الثاني وبالفصول 46 و 47 و 63.
وفي حالة التعذر الحاصل للوزير الأول ولرئيس مجلس الأمة فتجرى انتخابات لتعيين رئيس الجمهورية الجديد لما بقي من المدة النيابية الجارية لمجلس الأمة في اجل لا يتجاوز 45 يوما من بدء الشغور.
و. نظام 7 نوفمبر يراجع مسالة سد الشغور
وقد يكون بن علي تفطن الى كل المخاطر المتعلقة بالصيغة القديمة للخلافة والتي تجعل الوزير الأول هو المعوض لرئيس الدولة في حالة الشغور النهائي فبادر بعد اقل من عام من وصوله الى السلطة الى تعديل هذه الصيغة فقد نص الفصل 57 كما نقح بالقانون الدستوري عدد 88 لسنة 1988 أولا على أن الخلافة تؤول الى رئيس مجلس نواب الشعب ثم الى مزيد تنظيم عملية انتقال السلطة بواسطة القانون الدستوري عدد 51 لسنة 2002 المؤرخ في 1 جوان 2002) والذي ينص على انه:
عند شغور منصب رئيس الجمهورية لوفـاة أو لاستقالة أو لعجز تام، يجتمع المجلس الدستوري فورا، ويقرّ الشغور النهائي بالأغلبية المطلقة لأعضائــه، ويبلغ تصريحا في ذلك إلى رئيس مجلس المستشارين ورئيس مجلس النواب الذي يتولى فورا مهام رئاسة الدولة بصفة مؤقتة لأجل أدناه خمسة وأربعون يوما وأقصاه ستون يوما. وإذا تزامن الشغور النهائي مع حل مجلس النواب، يتولى رئيس مجلس المستشارين مهام رئاسة الدولة بصفة مؤقتة لنفس الأجل.
ويؤدي القائم بمهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة اليمين الدستورية أمام مجلس النواب ومجلس المستشارين الملتئمين معا، وعند الاقتضاء أمام مكتبي المجلسين. وإذا تزامن الشغور النهائي مع حل مجلس النواب، يؤدي اليمين الدستورية أمام مجلس المستشارين وعند الاقتضاء أمام مكتبه.
4. دستور 27 جانفي 2014
يحافظ دستور 2014 على كثير من العناصر الموجودة في دستور 1959 في صيغته الأخيرة مع إدخلات بعض التغييرات إذ ينص الفصل 83 – لرئيس الجمهورية إذا تعذر عليه القيام بمهامه بصفة وقتية أن يفوض سلطاته إلى رئيس الحكومة لمدة لا تزيد عن ثلاثين يوما قابلة للتجديد مرة واحدة.
ويعلم رئيس الجمهورية رئيس مجلس نواب الشعب بتفويضه المؤقت لسلطاته.
وينص الفصل 84 – عند الشغور الوقتي لمنصب رئيس الجمهورية، لأسباب تحول دون تفويضه سلطاته، تجتمع المحكمة الدستورية فورا، وتقر الشغور الوقتي، فيحل رئيس الحكومة محل رئيس الجمهورية. ولا يمكن أن تتجاوز مدة الشغور الوقتي ستين يوما.
إذا تجاوز الشغور الوقتي مدة الستين يوما، أو في حالة تقديم رئيس الجمهورية استقالته كتابة إلى رئيس المحكمة الدستورية، أوفي حالة الوفاة، أو العجز الدائم، أو لأي سبب آخر من أسباب الشغور النهائي، تجتمع المحكمة الدستورية فورا، وتقر الشغور النهائي، وتبلغ ذلك إلى رئيس مجلس نواب الشعب الذي يتولى فورا مهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة لأجل أدناه خمسة وأربعون يوما وأقصاه تسعون يوما.
وينص الفصل 85 – في حالة الشغور النهائي يؤدي القائم بمهام رئيس الجمهورية اليمين الدستورية أمام مجلس نواب الشعب، وعند الاقتضاء أمام مكتبه، أو أمام المحكمة الدستورية في حالة حل المجلس.
وينص الفصل 86 – يمارس القائم بمهام رئيس الجمهورية، خلال الشغور الوقتي أو النهائي، المهام الرئاسية. ولا يحق له المبادرة باقتراح تعديل الدستور، أو اللجوء إلى الاستفتاء، أو حل مجلس نواب الشعب.
وخلال المدة الرئاسية الوقتية يُنتخب رئيس جمهورية جديد لمدة رئاسية كاملة، كما لا يمكن تقديم لائحة لوم ضدّ الحكومة.
وهكذا وسّع دستور الجمهورية الثانية أسباب الشغور النهائي فلم يقتصر على الوفاة والاستقالة والعجز التام وأضاف لها الشغور الوقتي اذا تجاوز مدة الستين يوما أو لأي سبب آخر من أسباب الشغور النهائي فجعلها مطلقة تخضع لاجتهاد المحكمة الدستورية التي أوكل لها مهمة أن تقر الشغور النهائي، وتبلغه إلى رئيس مجلس نواب الشعب الذي يتولى فورا مهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة لأجل أدناه خمسة وأربعون يوما وأقصاه تسعون يوما.
وحافظ دستور الجمهورية الثانية على الرهان بين رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب اذا حصل شغور في منصب رئاسة الدولة وقتيا كان أو نهائيا وأسند الى المحكمة الدستورية أن تقر بحصول شغور من عدمه وهل هو وقتي أم نهائي فاذا أصيب رئيس الجمهورية بعجز مؤقت لا يتجاوز ستين يوما يمنعه حتى من تفويض صلاحياته يحل رئيس الحكومة محله و أمّا في الشغور النهائي فيتولى رئيس مجلس النواب فورا مهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة وهو ما حدث فعلا اثر وفاة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي وبسبب عدم إرساء المحكمة الدستورية أقرّت الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين الشغور النهائي وأعلمت به رئيس مجلس نواب الشعب الذي تولى فورا مهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة.
5. دستور 2022
تعرض دستور 2022 الى مسألة التعذر الوقتي لرئيس الجمهورية عن القيام بمهم فيفوّض بأمر وظائفه الى رئيس الحكومة باستثناء حق حل غرفتي البرلمان لكن لم يتعرض الى مسألة التعذر الوقتي الذي يعجز أثناءه رئيس الجمهورية عن تفويض صلاحياته وهو التعذر الذي كان موضوع الفقرة الأولى من الفصل 84 من دستور الجمهورية الثانية.
ووسّع دستور 2022 هو أيضا في أسباب الشغور في منصب رئاسة الدولة فلم يقتصر فقط على الوفاة أو الاستقالة أو العجز التام واطلقها بعبارة «لأيّ سبب من الأسباب» لكن لم يمنح المحكمة الدستورية صلاحية أن تقرّ بحصول التعذر الوقتي أو الشغور النهائي الذي عند حصوله تؤول الخلافة الى رئيس المحكمة إذ ينص 109 من دستور 2022 على انه عند شغور منصب رئاسة الجمهورية لوفاة أو لاستقالة أو لعجز تام أو لأي سبب من الأسباب، يتولى فورا رئيس المحكمة الدستورية مهامّ رئاسة الدولة بصفة مؤقتة لأجل أدناه خمسة وأربعون يوما وأقصاه تسعون يوما.».
ومنذ دخول الدستور الجديد حيز النفاذ يوم 17 أوت 2022 وهو تاريخ نشره بالرائد الرسمي لم يقع إرساء المحكمة الدستورية رغم أن كل أعضائها أصبحت تسميتهم بموجب الدستور نفسه بيد رئيس الجمهورية وحده بعد كان اختيارهم في دستور 2014 موزعا بين مجلس النواب ورئاسة الجمهورية والمجلس الأعلى للقضاء الشيء الذي عطل إرساءها بسبب التجاذبات التي حصلت بشأنها في البرلمان لمدة تجاوزت الخمس سنوات. ولا احد يدري سبب تأخر رئيس الجمهورية في تسمية أعضاء المحكمة ولا متى سيقع تسميتهم بالنظر إلى أن غياب المحكمة التي يتولى رئيسها رئاسة الدولة بصفة مؤقتة عند الشغور يعني عدم وجود أية آلية دستورية لسد الشغور.
ومن الغريب أن الأحكام الأربعة الانتقالية والختامية التي يحتويها دستور 2022 لا تشير الى أي صيغة من صيغ سد الشغور في المرحلة الفاصلة بين سن الدستور وقيام المحكمة الدستورية مع العلم أن هذه الأحكام تنص في الفصل 139 «على انه» يستمّر العمل في المجال التشريعي بأحكام الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 المؤرخ في 22 سبتمبر 2021 المتعلق بتدابير استثنائية إلى حين توليّ مجلس نوّاب الشعب وظائفه بعد تنظيم انتخابات أعضائه».
ومع العلم أيضا أن الأمر 117 الذي انتهى العمل به منذ تولى مجلس نواب الشعب وظائفه كان يجعل من رئيس الحكومة الشخص الذي يتولى مهام رئاسة الدولة بصفة مؤقتة وهو ما يعني في المحصلة أن البلاد لا تملك اليوم أي صيغة من صيغ استمرار الدولة ممثلة في رئيسها في حال حصول فراغ في منصب رئاسة الدولة بسبب الشغور الحاصل لأي سبب من الأسباب.
أخيرا نقول انه إذا استثنينا الحالتين المذكورتين والتي كانت تفتقد فيهما البلاد الى صيغة من صيغ سد الشغور في رأس الدولة في حال حدوثه فان تونس منذ عهد البايات كانت تنظم بشكل دقيق عملية الاستخلاف ناهيك انه حتى مع الثورة في 14 جانفي 2011 استطاعت البلاد أن تتجنب ما وقع في كثير من البلدان من تنازع وفوضى عقب ما يسمى بالربيع العربي.
فأثناء الثورة على نظام بن علي وبعد فراره الى السعودية ظهر الوزير الأوّل محمد الغنوشي في التلفزة واعلن انه رئيس للجمهورية بشكل وقتي على معنى الفصل 56 من الدستور الذي موضوعه التعذّر الوقتي لرئيس الجمهورية عن القيام بمهامه والذي يشترط التفويض من رئيس الجمهورية الى الوزير الأوّل لكن قوبل هذا الإعلان برفض شعبي فاجتمع المجلس الدستوري على معنى الفصل 57 من الدستور واقرّ الشغور النهائي واعلم به رئيس مجلس المستشارين ورئيس مجلس النواب الذي تولى فورا مهام رئاسة الدولة بصفة مؤقتة وخلال مدة رئاسته ختم النصوص القانونية التي مهّدت لانتخاب أعضاء المجلس الوطني التأسيسي الذي كتب دستور الجمهورية الثانية. حدث ذلك من دون أي تنازع على السلطة ولا أي اعتراض من احد. تلك عبقرية هذه البلاد ذات التجربة الدستورية الثرية والتي قل نظيرها في أي من البلاد العربية.