لذلك يا براهيما قدمت إلى هنا
عرفت براهيما منذ سنة ونيف كان نادلا بالمقهى الّذي صار يعرف باسمه، وقد تواعدت مع صديقي الحبيب للقاء جديد في نفس المكان المعتاد للدردشة وارتشاف قهوة بلون بشرة من يعدّها قبل الانتقال إلى المنزل لقضاء ليلتي في انتظار فعالية الغد بعد أن حضرت تظاهرة احتجاجية نقابية في الصّباح.
براهيما شاب في الواحدة والثلاثين من عمره أصيل ياموسوكرو الإيڨوارية كان يمنّي النّفس بالتّواجد في أوربّا ليجد نفسه في تونس وهو يعمل كنادل في أحد المقاهي، براهيما لطيف جدّا وخفيف الرّوح تكاد البسمة لا تغيب عن صفحة وجهه وهو مجتهد في عمله إلى درجة الإتقان حتّى أنّ صاحب المقهى لا يستطيع أن يستغني عن خدماته.
تغيّرت الكثير من الأشياء منذ أن قابلته أوّل مرّة، غابت بسمته وبان مذعورا ومرتبكا بل قيل لي أنّه اختفى عن الأنظار منذ أسبوعين ولم يظهر إلّا منذ يومين.
كما تغيّرت الكثير من الأشياء في هذا البلد منذ عام ونيف، تلبّدت سماؤه بسحب عقيمة داكنة وتبلّدت أحاسيس أهله إلى حدّ التوحّش وانتشر بين النّاس الحقد واليأس والبؤس وتجلّت لدى بعضهم عدوانية مفرطة وعنصريّة مقيتة انحدرت بهم إلى أدنى درجات الحيوانية، كان يكفي لاستثارتها خطاب عنصريّ غير مسؤول من قبل من من المفترض أن يكون مسؤولا وقد أثبت أنّه لا يمكنه أن يكون كذلك.
في ظرف عام ونيف منذ لقائي الأوّل ببراهيما نما منسوب العنف وازداد الإحتقان وتعمّقت الأزمات في جميع المجالات وانتشر القبح ليخرج أسوأ ما فينا وتغيّرت جغرافية البلد وكأنّه عزل في أقاصي الأرض ليصير منبوذا وملفّا منسيّا فوق طاولاتهم.
في بضعة أشهر اسودّت تماما وتغيّرت ملامح تونس ليظهر على وجهها المتعب شبح الموت.
في مهلة وجيزة اغتيل حلم جميل واقتيد العباد إلى إسطبل الدواب مجدّدا وصار النّاس يسجنون بسبب آرائهم وقريبا يسترجعون عاداتهم في الاحتراس من الجدران الّتي لها آذان.
نعم يا براهيما وأنت من اكتويت من عنصرية تراها في عيون البعض وترى أمثالك وهم يطاردون كفرائس في غابة متوحّشة، النّار الّتي اكتويت بها هي بعض من نار تلفحنا جميعا، نار الحقد والكراهية الّتي أوقدها من لا يستطيع العيش إلّا من خلال نفثها ولا يستطيع التواجد إلّا في ظلّ حالة من الاحتراب والانسداد والتأزّم التّام ولا يستطيع الاستمرار إلّا من خلال توفير مبرّرات وجوده، لكن تأكّد يا براهيما أنّ كلّ ما يجري من عبث هو قوس مخجل في تاريخ بلد تعرّض لحادث طريق خطير حوّله إلى غرفة العناية المركّزة وسينجو منه ولو بعد حين ولو بكلفة أضرار قد تلاحقه لسنين تماما كما نجا والدك من الرّصاصة الّتي أطلقها عليه أحد رجال العصابات في مدينتك حيث نشأت.
لذلك يا براهيما قدمت إلى هنا، من مدينتي مثلك تماما فجميعنا لاجئون نبحث عن أوطان تحتضننا وتشعرنا بالدّفء لأصرخ في وجه الطّغاة من يريدون أن يغتصبوا إنسانيتنا.
خطوة أخرى في مسيرة كبرى، مسيرة التحرّر والحرّية ولن يستطيع أيّ كان أن يوقفها.
د. محمّد فتحي الشوك