عبد السلام الككلي
استمعت في المدة الأخيرة إلى كثير من التفسيرات أو قرأتها لعزوف التونسيين عن المشاركة في الانتخابات التشريعية. كان البعض يحاول تبرير هذا العزوف بأية طريقة وبالكذب والتلبيس في أكثر الأحيان.
فعبيد البريكي يعتبر دون خجل أن نسبة 11 بالمائة نسبة مقبولة بالنظر إلى تراجع الديمقراطية في العالم (لا يقول أي تفصيل بالأرقام عن هذا التراجع ولا عن أسبابه).
قد لا تستغرب هذا الخطاب من رجل تحول إلى بوق دعاية لقيس سعيد مثله مثل زهير المغزاوي فهما لا يملكان أية معرفة حقيقية بمشكل الديمقراطية في العالم كما يستعرضه علماء السياسة وفلاسفتها في أوروبا وإنما يكتفيان ببعض الشعارات التي يلوكانها لوكا صباح مساء غير أنها سحابة غبار عاقر ومحض ثرثرة لا تنفع.
ولكنك قد تستغرب من أستاذ جامعي مثل لطفي عيسى يقدم ككاتب وباحث يستنجد به الإعلام ليقدم تحاليل «علمية دقيقة» في الثقافة والسياسة. فالرجل لا يتحرج من القول أن نسبة المشاركة في الانتخابات في الدول الديمقراطية لا تتجاوز في افضل حالاتها من عشرين الى 25 بالمائة (انظر تصريحه لإذاعة موزاييك في 26 جانفي 2023 والذي لا صلة له بالواقع كما يدعيه الباحث وكما سنرى ذلك). ولا يقدم عيسى أية أمثلة على ما يزعم في اطمئنان غريب إلى أرقامه التي لا ندري من أين جاء بها. ومن الغريب أيضا انه يعترف هو نفسه أنه بتصريحه هذا يكاد يتحول إلى مساند لمنظومة 25 (كاد المريب أن يقول خذوني!).
لا يطرح كل هؤلاء أي سؤال جدي حول النظام الانتخابي في انتخابات 2022 ولا يقفون كثيرا حول طريقة الاقتراع التي اعتمدت وهي الاقتراع على الأفراد التي ألغت تقريبا وجود الأحزاب. وهي عندنا أهم سبب من أسباب عزوف التونسيين عن المشاركة. فكيف نتصور انتخابات دون أحزاب؟ وماذا نتوقع من نسبة مشاركة فيها إذا كانت أكثر الأحزاب خاصة قاطعتها كما قاطعت مسار 25 جويلية برمته عدا أحزاب قليلة أكثرها مجهرية كان الوقوف مع قيس سعيد لديها لا يبرره غير أحقاد أيديولوجية معروفة قادتها إلى تبرير العبث والانخراط فيه ودعمه رغم أن من بينها من انتبه في المدة الأخيرة مثل حركة الشعب إلى مخاطر الانقياد الأعمى وراء اختيارات الرئيس وكيفية تسييره للبلاد رغم احتقاره لمعارضيه ومناصريه سواء بسواء.
لا شك أن لعزوف التونسيين أسبابا كثيرة ولكن من الأكيد أيضا أن هذا النظام الذي اختاره قيس سعيد وحده وفرضه على التونسيين دون أي حوار مجتمعي هو من الأسباب الجوهرية وراء هذا العزوف الذي قارب الـ 90 بالمائة، والذي قد لا نجد له مثيلا في أي بلد من بلدان العالم..
فلنبدأ أولا بطريقة الاقتراع على الأفراد وما أسفرت عنه من نتائج عند غيرنا ولنأخذ مثال فرنسا الذي كثيرا ما يستند إليها المدافعون عن الرئيس..
الاقتراع على الأفراد في التجربة الفرنسية
لا احد يقول لنا ما يجري الأن اليوم في فرنسا التي ربما تلتجئ في السنوات القادمة إلى التخلي على نظام الاقتراع على الأفراد الذي تعتمده في الانتخابات التشريعية وتستبدله بنظام الاقتراع على القائمات مع اختيار مبدأ النسبية آو على الأقل تتجه نحو نظام مختلط يمزج مثل كثير من البلدان الأخرى بين النظامين أي الاقتراع على الأفراد والاقتراع على القائمات. ما نقوله هنا له ما يبرره بناء على تصريحات الفائزين الاثنين الأولين في الدور الأوّل من الانتخابات الرئاسية الفرنسية لسنة 2022 وهما أمانويل ماكرون ومارين لوبان.
كان ماكرون يوم الأربعاء 13 أفريل 2022 ضيف برنامج «الحقائق الأربعة» في قناة «فرنس 2» حيث طرح فكرة إدراج النسبية في القانون الانتخابي وردا على سؤال مقدمة البرنامج أجاب بأنه يمكن اعتمادها كليا وتجدر الإشارة إلى أن الدعوة إلى اعتماد النسبية في الانتخابات التشريعية تلقى رواجا عند كثير من السياسيين الفرنسيين سواء في الحكم أو في المعارضة.
فقد كان فرانسوا بيرو رئيس حزب الحركة الديمقراطية مثلا طالب الرئيس ماكرون بوصفه حليفا له ومنذ بداية المدّة الرئاسة المنقضية باعتماد النسبية في القانون الانتخابي بحجة أن نظام الأغلبية على الأفراد لا يعكس في البرلمان حقيقة تنوع الطيف السياسي في المجتمع الفرنسي كما أن مارين لوبان هي أيضا تدعو منذ مدة إلى اعتماد نظام النسبية في التشريعية لانتخاب ثلثي النواب وتعتبرها الوسيلة الوحيدة التي تحقق تمثيلا صحيحا للحساسيات الموجودة في فرنسا وهو ما يعني الخروج من التصويت على الأفراد الى التصويت على القائمات وهو النظام الذي يمكن من اعتماد النسبية لانتخاب المجالس النيابية.
وتجدر الإشارة أيضا هنا إلى أن البرلمان الفرنسي يتكوّن من الجمعية الوطنية ومن مجلس الشيوخ وينص الفصل 24 من الدستور الفرنسي على أن أعضاء الجمعية الوطنية ينتخبون بالاقتراع المباشر ولا يمكن أن يتجاوز عددهم 577 عضوا وينص على أن أعضاء مجلس الشيوخ ينتخبون بالاقتراع غير المباشر ولا يمكن أن يتجاوز عددهم 348 عضوا.
وأحال الفصل 25 من الدستور للمشرّع مهمة تحديد مدّة كل من الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ ومهمة ضبط عدد أعضاء كل واحد منهما وضبط شروط انتخاب هؤلاء الأعضاء.
وعملا بأحكام الدستور والقانون الانتخابي يبلغ أعضاء الجمعية الوطنية الفرنسية 577 عضوا ينتخبون بنظام الاقتراع المباشر على الأفراد في دورتين والدوائر الانتخابية ذات العضو الواحد.
ويتم انتخاب النواب وفقاً لنظام التصويت بالأغلبية في جولتين. ولكي يصبح المرشح نائباً يجب عليه الحصول على ما يلي:
- يحصل في الجولة الأولى على الأغلبية المطلقة للأصوات وعلى عدد مساو لربع عدد الناخبين المسجلين في القوائم الانتخابية على الأقل.
- لخوض الجولة الثانية يجب على المرشح أن يكون حاصلاً على عدد من الأصوات تصل نسبته إلى 12.5% على أقل تقدير من عدد الناخبين المسجلين وفي الجولة الثانية تكفي الأغلبية النسبية للفوز وفي حال تعادل المرشحين يفوز المرشح الأكبر سناً.
- يتم التصويت في كل دائرة انتخابية على حدة حيث أن كل دائرة من هذه الدوائر تمثل مقعداً في البرلمان.
وهكذا وضع القانون الانتخابي الفرنسي في الانتخابات التشريعية عتبة للفائز بالأغلبية في الدور الأول وهو 25 بالمائة من الجسم الانتخابي وعتبة بـ 12.5 من الناخبين المسجلين للمشاركة في الدور الثاني
معنى ذلك انه إذا طبقنا هذا النظام فانه من الواجب إعادة الانتخابات التشريعية الأخيرة في تونس برمتها إذ لم يحصل الفائزون في أكثرهم على نسبة تتجاوز 11 بالمائة من الجسم الانتخابي في الدورين الأول والثاني. ولكن النظام الذي اختاره قيس سعيد ألغى شرط العتبة لأنه ألغى كل عتبة هي عقبة ممكنة أو مفترضة أمام نجاح مشروعه الذي كان يريد فرضه فرضا ويراهن عليه أيا كانت نسبة المشاركة. فمن ذهبوا الى صناديق الاقتراع هم الشعب أما البقية فخونة وعملاء (هكذا !).
فرنسا تطالب بمزيد من الديمقراطية
لا احد يقول لنا إن أزمة الديمقراطية في البلدان الغربية لم تقد الى التنكر لها أو التقليل من شأنها بل قادت عكس ذلك إلى التفكير في دعمها ومن وسائل دعمها التفكير في التخلي عن نظام الاقتراع على الأفراد.
ماذا يعني تفكير أهم الوجوه السياسية الفرنسية في التخلي عن نظام التصويت بالأغلبية على الأفراد والذهاب إلى نظام النسبية الذي لا يكون إلا على القائمات؟
هل توصل السياسيون الفرنسيون البارزون اليوم إلى قناعة بان التصويت على الأفراد يضعف الحياة السياسية وانه لا يسمح بالوصول الى المجالس النيابية المنتخبة إلاّ للشخصيات الكبرى المنتمية إلى الأحزاب المهيمنة وانه يلغي بذلك وجود كثير من الأحزاب الصغيرة في البرلمان سواء كان بغرفة أو بغرفتين؟
مهما يكن من أمر ذلك فان النظم الانتخابية هي اختيارات سياسية ذات أهمية قصوى في الحياة السياسية وخاصة في الديمقراطيات الناشئة.
يقول أستاذ القانون زهير المظفر «أنّ الأخصائيين في القانون الدستوري والعلوم السياسية يجمعون على أن التقنيات الانتخابية تؤثر مباشرة على نتائج الانتخابات فاختيار نظام اقتراع معين يؤثر على الخارطة السياسية بوجه عام وعلى الأحزاب السياسية بوجه خاص» و لاحظ بأنه لا غرابة أن تبادر بعض الحكومات بمجرد حصولها على الأغلبية بتطويع النظام الانتخابي لصالحها إدراكا منها لأهمية التقنيات الانتخابية في تحديد النتائج النهائية. [1]
وقد ارتكزت فلسفة القانون الانتخابي في الفترة الأولى من الاستقلال بحسب زهير المظفر على تحقيق انسجام الهيئات المنتخبة فكانت حكومة الاستقلال في حاجة إلى هيئات منتخبة منسجمة التركيبة تدعم عملها وتساعدها على إنجاز برامجها من اجل دعم الوحدة القومية والقضاء على مظاهر التعصب ومساوئ العروشية والقبلية والجهوية لذلك استبعد الاقتراع على الأفراد لفائدة نظام القائمة الانتخابية حتى تأخذ الانتخابات صبغة وطنية. [2]
وبقطع النظر عن المبررات التي يقدمها المظفر لاستبعاد نظام الاقتراع على الأفراد ومنطق الانسجام و «الوحدة القومية» الذي قام عليه نظام الاستبداد في عهد بورقيبة فان التخوف من مساوئ العروشية والقبلية يظل قائما في مجتمع فقير لم يتخلص بعد من الأمية ومن مخلفات النظام القبلي ورديفه الجهوي.
ومهما يكن من أمر فإن أي نظام من الأنظمة الانتخابية سواء كان على الأفراد أو على القائمات وسواء كان باعتماد مبدأ الأغلبية أو النسبية بتنوعاتها ليس كله شرا مطلقا ولا كله خيرا مطلقا. إن أي نظام من هذه الأنظمة يتضمن إيجابيات وسلبيات وهو بذلك يجب أن يكون محل نقاش مجتمعي في كل بلد بالنظر إلى خصائصه الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ولكل ذلك فان هذه الأنظمة الانتخابية تدخل كلها رئاسية وتشريعية في مجال الدستور والقانون عموما بالمفهوم الدقيق لكلمة قانون أي أنها عمل تشريعي تختص به المجالس النيابية الممثلة للشعب. هذه المجالس هي التي تختار النظام الانتخابي الذي تراه أنسب من خلال حوار برلماني عميق ولكن لا يستثني دور المجتمع المدني في النقاش والجدل العمومي.
ولا شك أن لجوء السلطة السياسية في تونس إلى تغيير النظام الانتخابي قبل فترة وجيزة من الانتخاب وقيامها بهذا التغيير بشكل منفرد دون اللجوء إلى المجلس التشريعي المخول لمناقشة هذا التغيير واعتماده أو رفضه يهدد أي نظام سياسي ديمقراطي أو يطمح إلى الديمقراطية ويجعلان منه ضحية هيمنة الفرد المستبد وطريقا لاستدامة هذه الهيمنة خارج أي مبدأ من مبادئ الفكر الدستوري الديمقراطي.
كاد المريب أن يقول خذوني
لقد كانت نتيجة هذا الاختيار التسلطي نسبة المشاركة الفضيحة في الانتخابات التشريعية سواء في الدور الأول أو الدور الثاني إذ اقتربت نسبة العزوف من 90 بالمائة (كانت المشاركة بنسبة 11 بالمائة تقريبا في الدورين) ولا شك أن هذه النسبة من الصعب أن توجد في أي بلد ديمقراطي أو حتى في البلدان التي تعيش مرحلة الانتقال الديمقراطي بل يسخر منها البعض حين يقول أننا دخلنا بواسطتها موسوعة قينس في ضعف المشاركة في أي نوع من أنواع الاقتراع.
وان الاستشهاد بالبلدان الديمقراطية لتبرير هذه النسبة أو للحديث عن أزمة المشاركة في الانتخابات في البلدان الديمقراطية هي زعم لا تدعمه أية حجة رقمية. صحيح أن العزوف كان كبيرا في الدورين الأول والثاني في الانتخابات التشريعية في فرنسا سنة 2022 مثلا ولكن هذا العزوف كان بنسبة 52 بالمائة في الدور الأول و 54 بالمائة في الدور الثاني واقتربت نسبة المشاركة في الساعة الخامسة من 40 بالمائة (الانتخابات الرئاسية في فرنسا تعرف إقبالا اكبر إذ كانت النسبة حولي 64 بالمائة في الدور الثاني في 2022) أما في بريطانيا فان نسبة المشاركة في انتخابات مجلس العموم فكانت 67.3. بالمائة سنة 2019.
فمن أين جاء الأستاذ لطفي عيسى اذا بنسبة 20 الى 25 بالمائة مشاركة في أفضل الحالات في الانتخابات في البلدان الديمقراطية ؟.. لعله جاء بها لتبرير العبث الذي نعيشه اليوم في تونس.. هو تبرير يكاد يعلن عن نفسه حين يتنصل من نفسه كما قلنا في ما يشبه قول المريب يكاد يقول «ها أنا ذا.. فخذوني». ولكنا لن نأخذه بزعمه بل سنتركه الى نفسه ليراجع أرقامه بل بعض حساباته الإيديولوجية هو أيضا تلك التي تبرر تزييف الأرقام رغم أنها متوفرة لمن يطلبها وبكامل السهولة.
الهوامش
[1] انظر زهير المظفر «النظام الانتخابي في تونس». منشورات المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية 2005 الصفحة 3.
[2] المرجع السابق ص4
إسطرلاب