فتحي الشوك
“لقد ولدت في هذا العصر الحديدي لكي أبعث العصر الذهبي”
ولأجل تحقيق هذه المهمّة العظيمة المقدّسة قام “ألونسو كيخانو” بتغيير اسمه ليتّخذ من الأسماء “دون كيشوت دي لا مانشيا”، ويستخرج لنفسه سلاحا قديما متهالكا ويمتطي صهوة حصان هزيل تكاد عظامه تخرج من تحت جلده وقد أطلق عليه من الأسماء ما يليق بفارس مغوار مثله “روثينانته”، ثمّ ينطلق في رحلته المقدّسة لتغيير العالم ووضع حدّ لعذابات البشرية ومآسيها، وقد اصطحب لأجل ذلك فلّاحا ساذجا بسيطا ارتضى أن يكون له تابعا مقابل وعد بتنصيبه حاكما لإحدى الجزر الّتي سيفتحها سيّده الجديد في مغامرته هذه.
كان صانشو ضخم الجثّة وقصيرا بعكس سيّده النّحيف والطّويل.
وفي أوّل واقعة من رحلتهما صادفهما فلّاح كان يقوم بجلد خادمه فما كان من “دون كيشوت” إلا أن يتدخّل لينهره ويأمره بالكفّ عن صنيعه في الحين ليمتثل الفلّاح تحت تهديد السّلاح ويعود إلى سالف عهده بمجرّد أن ابتعد “دون كيشوت” بعض الأميال، كان هذا الأخير مزهوّا بانتصاره وقد إنتشى وهو يرى مشروعه العظيم بدأ يتحقّق بينما كان الفلّاح يسخر من سذاجة هذا الفارس الغريب و خفّة عقله!
تعدّدت نجاحات الفارس المغوار الوهمية لتذكي اندفاعاته العاطفية وتغرقه في عالم الهوس والتخيّلات وتزيده يقينا وإصرارا لإنجاز ما بعث لأجله لتحرير العالم من المظالم.
أمّا أشهر صراعاته فتلك الّتي كانت مع طواحين الهواء فقد توهّمها شياطينا لها أذرع هائلة تقوم بنشر الشرّ في العالم لذلك طاردها ورماها كم مرّة برمحه معتقدا أنّه أصابها في مقتل لتصادفه أخرى فيعيد نفس الكرّة.
ما أشبه “دون كيشوت” تلك الشخصية الّتي رسمها الرّوائي “ميخاييل سارفانتس” في رائعته الّتي أسّست للفنّ الرّوائي في مطلع القرن السّابع عشر، “عصر التنوير”، بدون كيشوتنا التونسي في عصرنا الحالي، “عصر ما بعد الحداثة”.
وقد يكون الفارق الوحيد أنّ “دون كيشوت” الأصلي استفاق في النّهاية وعاد إليه رشده ليقلع عن مطاردة السّراب والوهم ويقول قولته المشهورة: “لقد كنت مجنونا والآن صرت عاقلا، لقد كنت دون كيشوت دي لا منشيا والآن كما قلت لكم ألونسو كيخانو”، أمّا دون كيشوتنا التوّنسي، الهجين والمستنسخ والّذي إلى جانب ما يجمعه بالأصلي من سذاجة وبلاهة فهو يحمل أعراض متلازمة “هوبرس” فلا أمل بتاتا في استفاقته أو عودة إلى رشده.
د.محمّد فتحي الشوك