Site icon تدوينات

هكذا عشنا 14 جانفي 2011

عبد اللطيف علوي

عبد اللطيف علوي

عبد اللطيف علوي 

رواية “أسوار الجنة” || عبد اللطيف علوي || الفصل الأخير.
أسفر الصّبح بطيئا يتحسّس العالم بين كسف السّواد الثّقيلة، بعد ليلة طويلة لم أنم فيها إلاّ القليل.

ليلة الخديعة الكبرى، ليلة لن أنساها ما حييت، كانت آخر محاولة في جعبة السّفّاح، وآخر رمية يرميها السّحرة في وجوه الغافلين.
استمعنا إلى خطاب بن علي، وكم كان مربكا وعاطفيّا، في شعب تعوّد أن يصدّق دموع التّماسيح ويبتلع الطّعم مرّة تلو مرّة، دون أن يتعلّم الدّرس، منذ أيّام بورقيبة، كان يحلّ أسوأ الأوضاع والأزمات بخطاب حماسيّ مؤثّر، يذرف فيه دمعتين، وينتهي كلّ شيء.
ليلتها، سادت لغة الصّمت بيني وبين فدوى، وكنّا نعرف أنّ الدّقائق والسّاعات القادمة ستحدّد مصير البلد. حيرة وانتظار وغصّة محفورة في الحناجر، كانت أيّة صرخة شجاعة أو كلمة خذلان يمكن أن تغيّر مسار الأحداث في تلك السّاعات الرّهيبة، المليئة بالشّكّ والخوف والتّرقّب.
ولم يتأخّر الرّدّ. لم إلاّ تمض دقائق حتّى قطع التّلفزيون الرّسميّ برامجه ليربط مباشرة بشارع الحبيب بورقيبة، حيث كان المئات يهتفون ويهلّلون ويرقصون استبشارا بخطاب الرّئيس، وسيّارات “اللّوكاسيون” تصدح بمنبّهاتها احتفالا بحكمة سيادته، المخلّص دائما كما كان قبل عشرين عاما.
وتواصلت التّصريحات الّتي تثمّن ما ورد في كلمته من قرارات الانفتاح والتّغيير ووعود الشّفافيّة والمحاسبة، نفس الوعود ونفس الشّعارات ونفس الخدع الّتي جاء بها خطاب السّابع من نوفمبر سنة سبع وثمانين، خطاب الانقلاب السّعيد، وكأنّ التّاريخ لم يغادر مكانه.

أسوار الجنة

كان السّؤال الأقسى والأمرّ: هل يعقل أن ينجح الأمر مرّة أخرى؟ هل يعقل أن نكون شعبا سفيها ورخيصا وبلا ذاكرة إلى ذلك الحدّ؟ هل يمكن أن ننسى كلّ تلك الدّماء الّتي ما زالت لم تجفّ، في تالة والقصرين والرقاب وبوزيان وحيّ التّضامن والكرم وفي كلّ شبر مرّت به الثّورة؟ وهل يمكن أن ينتصر الجلاّد على “عامر الصّالحي” مرّة أخرى ويذبحه من جديد بخناجرنا، نحن الّذين حلمنا لأيّام بأنّ الحياة يمكن أن يكون لها لون آخر وطعم آخر؟
ما أسوأ أن تكون دائما على صواب!
لا أعرف من أين خرجت كلّ تلك المخلوقات العجيبة لتهتف بحياة سفّاحها المعبود، لكنّ الأمر كان واضحا فاضحا، كانت البلاد خاضعة لحظر التّجوّل، وكان واضحا أنّ حزب الرّئيس هو الّذي أعدّ تلك المسرحيّة الهزيلة. وعلى الشّاشات تجمّعت جوقة من المنافقين وكلاب الدّعاية، في حلقة تلفزيّة أعدّ لها صهره الطّرابلسيّ شخصيّا، لمحاولة إقناع النّاس بأنّ كلّ شيء سيتغيّر غدا ببضع كلمات سحريّة من بن علي، وسيصحو الشّعب فيجد نفسه في بلد جديد لا يشبه أبدا ذلك الّذي غربت عليه شمس الثالث عشر.
لم أنم ليلتها، ضممت فدوى إلى صدري بحرارة وقلت لها:
ـ غدا يتحدّد كلّ شيء، وسيكون اليوم الأخير حتما، إمّا لبن علي، أو لهذه الثّورة اليتيمة.
نظرت إليّ بعينين يسكنهما الخوف وقالت:
ـ في البداية، كنت أتمنّى أن تتوقّف هذه الأحداث بأيّ شكل، كي لا نذهب إلى المجهول. أمّا اليوم، فلم أعد واثقة ممّا أريد حقّا… إذا حدث ذلك، فسيأخذ بن علي وقتا ليسترجع أنفاسه، أيّاما أو أشهرا، ثمّ يذبحنا بعد ذلك جميعا واحدا تلو الآخر بدم بارد.
صباح الرّابع عشر من جانفي، استيقظت كعادتي، كي أذهب إلى المطبعة، نظرت إليهم جميعا وهم نائمون، فقد كانت الحكومة قد قرّرت تعطيل الدّروس إلى أجل غير مسمّى! توقّفت قليلا قبل الخروج، كأنّ وخزة دبّوس نقرت قلبي، ثمّ تفقّدت أوراقي، وأخذت هاتفي الخلويّ وخرجت.
كانت السّاعة تشير إلى السّابعة صباحا، المدينة شبه خالية والحركة تكاد تكون منعدمة، من حين لآخر تدبّ خطوات عجولة حذرة، والخوف يخيّم على الوجوه ممتزجا بحيرة واضحة. توقّفت أمام كشك لبيع الجرائد، فاشتريت علبتي سجائر، ورحت أتصفّح العناوين بعينيّ: “ليل مشرق بعد نهار أظلم في كامل البلاد”، “كفى عنفا… كفى عنفا”، “منطق القلب والعقل: خطاب المنعرج التّاريخيّ”، “اطمئنان على الحاضر، استبشار بالمستقبل”، “الرّئيس بن علي فهمنا واحنا فهمناه وزدنا حبّيناه”!
شعرت بغيظ لا حدود له، ودون أن أشعر غيّرت طريقي، لن أذهب إلى العمل هذا اليوم، ولن أسترخص أحدا. ما فائدة أن تظلّ تعمل طول العمر وتدور كالحمار في السّاقية، والسّجن أقرب إليك من حبل الوريد! رحت أتسكّع دقائق لا أعرف أطالت أم قصرت، حتّى وجدت نفسي أصعد إلى الميترو وأتوجّه نحو قلب العاصمة.
عندما نزلت في محطّة الجمهوريّة، كانت الحركة شبه عاديّة، لولا سرعة الخطى أكثر ممّا هو معتاد، جلست في “كافيتيريا” تفتح على شارع الحرّيّة، وطلبت قهوة في انتظار أن يحين موعد التّجمّع الّذي دعا إليه اتّحاد الشّغل في ساحة محمّد علي. وقبل أن أنهض مرّ أمامي كمال الزّايري، لم أصدّق عينيّ، وقفت بسرعة وهتفت مناديا، فالتفت متردّدا، ثم أقبل عليّ يسلّم بالأحضان، وقد أسعدته المفاجأة كما أسعدتني، سألته متلهّفا:
ـ كيف حالك يا رجل؟ وكيف تركت “عين البيّة”؟
ـ الحمد لله! نحن بخير ونحمد الله أن أحيانا لكي نعيش أيّام العزّ هذه.
ـ وأمّي هل رأيتها؟ هل هي بخير؟
همهم قليلا ثمّ استدرك:
ـ طبعا هي بخير! لا تخش عليها. هل تقصد ساحة محمّد علي؟
ـ أجل، يجب أن نسرع قبل أن تغلق المسالك المؤدّية إليها.
مرّت أمامنا ونحن نتناول فنجان القهوة على قارعة الطّريق مجموعة من الشّرطيّين على درّاجات ناريّة، ورغم مظهرهم المُخيف، فقد بدا على وجوههم نوع من اهتزاز الثّقة، وكانت المرّة الأولى التي ننظُر فيها إليهم دون خوف، بل بشيء غير قليل من التّحدّي. ارتشفنا القهوة بسرعة، وسلكنا أزقّة وطرقا خلفيّة متفادين أن يوقفنا البوليس، حتّى دخلنا إلى السّاحة والتحمنا بآلاف الحاضرين، ولأوّل مرّة ينفجر صدري بصراخ أحسسته يتدفّق خارجا كنهر من الحمم: “خبز وماء وبن علي لا”. ثمّ توجّهنا إلى ساحة العملة، واندفعنا منها إلى شارع الحبيب بورقيبة، الشّارع الّذي ظلّ لسنوات طويلة محرّما على غير الأنشطة الرّسميّة، شارع الزّينة والأفراح ومواعيد العشّاق وباعة الزّهور فوق أقبية الدّاخليّة، أحد أكبر المسالخ البشريّة في البلاد.
حاول الأمن منعنا من دخول الشّارع الكبير، من خلال حاجز بشريّ مُكوّن من مئات الشّرطيّين، وكُنت في تلك اللّحظة في الصّفّ الأوّل المواجه لهم مُباشرةً، وبعد تدافع شديد وضغط من الخلف، تكسّر ذلك الطّوق وتكسّرت معهُ إلى الأبد سلاسل الخوف وأسطورة الدّيكتاتوريّة.
رأيت نفسي أركض داخل الشّارع الكبير، كذلك الطّفل الّذي كان معي يوما في “عين البيّة”، وعاش يركض حافيا في حصائدها ومروجها، يكركر بضحكاته العالية رغم الأشواك المنغرسة في قدميه الدّاميتين، كنت أصرخ وأهتف وأصيح في حالة من الهستيريا والنّشوة المجنونة:
ـ تقدّموا… لا تتوقّفوا… أسرعوا قبل أن يطوّقوا المكان من جديد!
كان كمال الزّايري يمسك بيدي أحيانا كي لا نضيع عن بعضنا في الزّحام، وربّما كان يسري بيننا أيضا في تلك اللّحظات الكثير من ذكريات القهر الّتي عشناها في “عين البيّة” طيلة السّنوات الفارطة.
بدأت المظاهرة تزداد ضخامة ومررنا أمام البالماريوم في اتّجاه وزارة الدّاخليّة، فرأينا بعض الواقفين هناك ما زالوا متردّدين في الانضمام إلينا… أذكر كيف وقفت أمامهم امرأة تصرخ بأعلى صوتها:
“اللّي تفوته الرّجوليّة اليوم، ما عادش ينجّم يلحقها غدوة!”، وأذكر كيف ضرب أحدهم عقب السّيجارة على الأرض واندفع لينضمّ إلينا، ثمّ تبعه آخرون.
مع انتصاف النّهار، تكسّر الطّوق تماما حول الشّارع وصار النّاس يدخلون إليه أفواجا من كلّ الضّواحي والأحياء المجاورة، حتّى امتلأ عن آخره، في مشهد أشبه بالقيامة. كنّا من أوائل الّذين وقفوا أمام مبنى وزارة الدّاخليّة، رفعت رأسي فرأيت اثنين يطلاّن علينا من الطّوابق العليا ويصوّران الجموع المحتشدة، فأخذنا نلوّح إليهم بإشارات ساخرة، وبعضنا كان يلوّح بإشارات بذيئة، فينبّهه أحدهم إلى أنّ بيننا نساء، فيخجل ويدير وجهه، نظرت حولي فإذا هي فسيفساء رائعة من جميع الأعمار، نساء ورجال بعضهم يتحاورون بلغة مثقّفة، وبعضهم يعبّرون عن غضبهم وسخطهم بلا حياء ولا تحفّظ! ومن حين لآخر كانت تصلنا قوارير مياه معدنيّة، فنشرب قليلا ثمّ نمرّرها، ونعود للصّراخ والهتاف من جديد: ” تونس تونس حرّة حرّة، وبن علي على برّه!”، “فهمتنا ما فهمتناش، بن علي ما تلزمناش!”، “الشّعب يريد، إسقاط النّظام!”.
كانت لحظات من عالم آخر، ومن زمن آخر، كان كمال يهتف ثمّ يلتفت إليّ والدّموع تملأ عينيه: “إذا متّ هذا اليوم، فسأموت سعيدا”، وكنت أصرخ وأبكي وأستحضر كلّ صفعة تلقّيتها في مراكز البوليس، وكلّ يوم مرّ عليّ في السّجن وأنا أنزف قهرا وعجزا وخوفا، أستحضر منظر “عامر الصّالحي” وهو يخفي وجهه وينكس رأسه بعد الاغتصاب، وأتذكّر دموع أمّي، فأقبض يدي أكثر حتّى تكاد عروقها تنفجر، وأرفعها إلى أعلى كأنّي أكتشفها للمرّة الأولى وأصرخ من جديد: “الشّعب يريد… إسقاط النّظام”.
شعرت بثقل شديد في رجلي اليسرى، حتّى صرت بين حين وحين أميل على كمال وأستند عليه مغتنما لحظات من الرّاحة، فاقترح عليّ أن ننسحب إلى الوراء ونرتاح قليلا على قارعة الطّريق قبالة الوزارة، في تلك اللّحظة، سحبت الجوّال من جيبي فهالني عدد الاتّصالات من فدوى، أكثر من خمسة عشر طلبا لم أنتبه إليها وأنا داخل المعمعة.
أعدت طلبها ثمّ رفعت الهاتف ووجّهته إلى الحشود الهادرة كي تسمع الهتافات، وبعد ثوان وضعته في أذني، وهتفت بكلّ انتشاء:
ـ هل تسمعين؟ إنّه شارع الحبيب بورقيبة! لقد تحرّرتُ يا حبيبتي… اليوم تحرّرت!
جاءني صوتها مرتعبا باكيا:
ـ لماذا فعلت بنا هذا يا خالد؟ لماذا؟… ألم تفكّر فينا؟ ألم تعدني؟
لا أعرف هل انقطع الخطّ بعدها، أم أنّها هي الّتي أغلقته لشدّة غضبها، حاولت معاودة الاتّصال بها أكثر من مرّة بعد ذلك، ولكن دون جدوى.
سرحت قليلا حتّى لم أعد أشعر بكلّ ما أراه أمامي…
كم تعزّ عليّ دموعك يا حبيبتي! أنا لم أخنك ولم أخذلك، وما فعلت ما فعلت إلاّ من أجلك، ومن أجل عامر وقمر… أحيانا، هناك أشياء يصعب علينا أن نفسّرها أو نتّفق حولها، مع أنّها أبسط بكثير من أيّ تأويل أو تعقيد. تعبت يا حبيبتي من دور الضّحيّة، تعبت وكرهت خوفي وفقدت كلّ إحساس بالحياة! أنت تريدينني أن أكون حجرا في يوم كهذا، وأنا لا أستطيع! منذ عشرين عاما وأنا ذلك الحجر الّذي يجرفه التّيّار فيغوص ويطفو ويسقط من أعلى الشّلاّل ويركد ويتدحرج ويعلق وينكسر وينجرف بعيدا بعيدا، وأنا لا أملك من أمري شيئا، لم أكن يوما خصما لهذا النّظام ولا عدوّا، هم صنعوا منّي عدوّا وملؤوا قلبي بالجمر وفمي بالتّراب والعقارب. لا أستطيع يا حبيبتي… “عامر الصّالحي” مازال يسكنني، ترك دمه وشرفه معلّقا في رقابنا منذ سنين، أنت لا تعرفين عامر الصّالحي! هم قتلوه بلا سبب يا فدوى! وعامر ابننا كذلك كادوا يقتلونه بلا سبب قبل البارحة، هو لم يذهب إليهم ولم يلق حجرا ولم يهتف ولم يصرخ وأنا لم أخبره بشيء عن كلّ ما حدث! لكنّهم كادوا يقتلونه بالغاز وهو في بيته وبين أمّه وأبيه، فكيف تريدينني أن أصمت اليوم؟ أنا هنا لأدافع عن عامر كي لا يغدروا به مرّة أخرى، وأدافع عن قمر، كي يبقى القمر دائما يتبعها ويحرسها، وأدافع عنك كي لا يعود “لزهر الماص” ويسرق منك حياتك من جديد.
أنا هنا من أجل نفسي، أنا لا أشعر بأيّة حاجة إلى الانتقام يا حبيبتي… أشعر اليوم أنّني صرت قدّيسا وأنّي مستعدّ أن أسامح وأغفر للجميع. أريد فقط أن ينتهي عصر الخوف! أريد أن أصرخ وأبكي يا فدوى، أريد أن أعوي وأنبح وأخبط الأرض بقدميّ وأصفع الرّيح وأرفع رأسي! لا أستطيع أن أموت قبل أن أرفع رأسي… لعشرين عاما ظلّ يتدلّى بين كتفيّ إلى الأمام محنيّا ذليلا، حتّى صار ثقيلا ثقيلا ككيس من الرّمل.
انتبهت من شرودي على صوت كمال يستنهضني من جديد، وقبل أن نعبر الطّريق شاهدنا سيّارة تشقّ المتظاهرين ببطء في اتّجاه السّاعة، وسمعنا التّكبير حولها، والنّاس يهتفون: “لا إله إلاّ الله والشّهيد حبيب الله”! عرفنا أنّها كانت تحمل نعشا لشهيد سقط في اليوم السّابق. وسمعنا صوت امرأة تصرخ بحرقة: “سرّاقين بلادنا قتّالين أولادنا!” حرقة ذبحتنا جميعا وألهبت الدّمع في عيوننا، وازداد الاحتقان فاندفع بعض الشّباب يتسوّرون أبواب الدّاخليّة، وعمّ الحزن والسّخط والغضب حتّى صرت أسمع الدّم يضخّ في العروق.
فجأة تساقطت أولى القنابل المسيلة للدّموع، فاندفع الجميع يركضون في كلّ اتّجاه، وتدافعت الأجساد واحتكّت الرّكب وتبعثرت الخطى. سقطت إحداها أمامي مباشرة، فركضت مع الرّاكضين في اتّجاه “الباساج” وقد اختنق صدري وانهمرت من عينيّ دموع حارقة، غشيتها غلالة بيضاء حجبت عنّي الطّريق، وسمعت أحدهم يصرخ: “انعطف يمينا”، فاندفعت في نهج باريس، وقابلني أحد رجال الشّرطة وهو يصرخ: ” إلى الأمام… لا تتوقّف!” فانفجرت في وجهه حانقا: “أ مازلتم تدافعون عنه إلى الآن؟!”.
انفلتّ داخل نهج “المختار عطيّة”، وجريت أمتارا قبل أن أتوقّف لحظات لأسترجع أنفاسي وألتفت علّي أرى كمال الزّايري، كان من الصّعب جدّا على أيّ شخص أن يحتفظ برفيقه في تلك الفوضى، فأيقنت أنّني أفلتّه… كان الرّصاص يلعلع في كلّ الأرجاء والدّخان يتصاعد من بعض المباني والنّاس في حالة من الهلع والذّعر، وتحوّلت الشّوارع والأنهج الضّيّقة والأزقّة المحاذية لوسط العاصمة إلى ساحة حرب حقيقيّة، حرب شوارع بين المتظاهرين الّذين ظلّوا بين كرّ وفرّ يحاولون العودة إلى الشّارع الكبير، وبين البوليس الّذي انتشر بكثافة وكأنّه استحضر في تلك اللّحظة شهوة الانتقام وراح يطارد المتظاهرين بالهراوات والرّصاص وقنابل الغاز.
وجدت نفسي أمام حضيرة بناء لعمارة لم تكتمل، فانسللت من خلال السّياج إلى داخلها، وكمنت قليلا في طابقها تحت الأرضيّ في انتظار أن يخلو الطّريق من البوليس ويخفّ إطلاق النّار. كانت السّاعة قد جاوزت الخامسة مساء، وظلال الغروب قد بدأت تزحف على المدينة، وكانت السّماء قد احتقنت فجأة بغيوم رماديّة كثيفة. وفي اللّحظة الّتي سحبت فيها الهاتف كي أتّصل بفدوى، رنّ في يديّ، ورأيت اسمها يظهر على الشّاشة كمصباح علاء الدّين. جاءني صوتها يهتف بلهفة وسعادة مجنونة، مثل طفلة تلهج بالبشارة:
ـ أبشر يا خاااالد! بن علي رحل! بن علي هرب… الخبر أمامي في الجزيرة الآن! أنت على حقّ يا حبيبي… أنا آسفة!بن علي انتهى.
لم أصدّق ما سمعت، أخرسني الذّهول، وظلّت تكرّرها وهي تلحّ عليّ:
ـ أرجوك عد بسرعة! هل خرجت من وسط العاصمة؟ هل أنت بخير؟ ألو… خالد هل تسمعني؟
أجبتها حين استعدت صحوة الوعي من جديد:
ـ أسمعك يا حبيبتي! أنا بخير… سأعود حالاّ… ألووو.
وانقطع الخطّ مرّة أخرى…
لم أكن أتصوّر أنّني سأعيش يوما تلك اللّحظة، شعرت بما يشبه الدّوار اللّذيذ، أأنا في صحو أم منام؟ منذ بدأت اﻷحداث كان يسكنني إحساس غامض أنّنا نعيش آخر أيّام الدّيكتاتور، لكنّني لم أكن أتصوّر أنّه يمكن أن يكون بهذه الهشاشة، فيسقط في يوم واحد كفيل من ورق، كيف يمكن أن يكون قد حكمنا بالحديد والنّار ما يقارب ربع قرن، وقتل منّا من قتل وعذّب منّا من عذّب وشرّد منّا اﻵﻻف وهو مجرّد فيل من ورق!!! انسربت الدّموع على خدّيّ تسحّ دون توقّف، وأنا ألهج بيني وبين نفسي: “اللهمّ لك الحمد! اللّهمّ لك الحمد!”، وشعرت أنّ الأوضاع في الخارج قد هدأت قليلا، فانسللت بحذر أتحسّس المكان، كان خاليا تماما، حالة من الهدوء الثّقيل تخيّم على المكان مع زحف ظلال الغروب، حتّى الشّبابيك ظلّت مقفلة أو هي مواربة، يسترق النّاس منها نظرات خاطفة إلى ما يحدث في الخارج وينسحبون سريعا خوفا من رصاصة طائشة. كان واضحا أنّه لا أحد يصدّق، ذكّرني ذلك بيوم سقوط بورقيبة، لم يستوعب أحد يومها أنّ حدثا بذلك الهول يمكن أن يقع دون أن تهتزّ اﻷرض وتنفجر البراكين وتشرق الشّمس من الغرب ملطّخة بالدّماء والأوحال، يومها تهامس النّاس سرّا فيما يشبه الهذيان:”بورقيبة تنحّى!!”، واستدرك البعض:” لا… يقال إنّه صار آية الله العظمى! لقد عيّن بن علي رئيسا ورقّى نفسه إلى منصب آية الله العظمى!
كان من المنطقيّ تماما أن يتطوّر اﻷمر بشكل طبيعيّ إلى ذلك، فيرتقي بورقيبة إلى منزلة اﻹله بشكل رسميّ ويترك المناصب الصّغرى، بما فيها الرّئاسة للبشر، نعم بورقيبة لا يمكن أن يتنحّى ولا يوجد في الدّنيا من يتجرّأ على عزله، فكيف نصدّق مثل تلك التّفاهات؟” أذكر أنّنا لم نستوعب ما حدث إلاّ بعد أيّام، حين غابت توجيهات الرّئيس، الّتي كانت فقرة مقدّسة قبل أخبار الثّامنة، سجّلنا يومها حدوث علامة من علامات السّاعة، وصرنا ننتظر قيامها في أيّة لحظة… من كان يظنّ أنّه يمكن أن تغرب شمس دون أن يطلّ علينا المجاهد اﻷكبر ليحدّثنا عن جهاده ومعجزاته في أرض الغبار البشريّ كما كان يسمّيه. لكنّ ذلك قد حدث، وكان لا بدّ أن يهبّ الشّعب كلّه ليعبّر عن سعادته العظيمة وامتنانه لبن علي الّذي جعله يحدث دون زلازل أو براكين أو أيّ مؤشّر على قيام وشيك للسّاعة.
سرت خطوات ملاصقا الحيطان، ريح باردة خفيفة تكنس المدينة وسحاب غامض بدأ يثقل في اﻷعلى ويموج في سكون. شعرت برئتيّ تمتلئان بدفقة حامية من هواء الحرّيّة من جديد، فاندفعت أركض كالممسوس في اتّجاه شارع الحرّيّة وأنا أصرخ بأعلى صوتي: “بن علي طاح! بن علي هرب! بن علي طاح” !
فجأة… شعرت بشيء يثقب ظهري ويخترق رئتيّ وصدري، تزامن مع صوت إطلاق نار قريب… اختلجت ثمّ سقطت على وجهي على الرّصيف المقابل لمبنى الإذاعة، وامتلأ حلقي بسائل سخين تدفّق إلى فمي، مددت يدي أتحسّسه فعادت حمراء… شهقت مرّة فأخرى كي أعبّ الهواء فلم أستطع. صار الهواء يغرغر في رئتيّ كما يصفّر بين عرائش القصب المكسورة، رفعت رأسي ويدي اليمنى بصعوبة واستجمعت آخر الأنفاس كي أزحف على جنبي الأيسر، فلم أشعر بجسدي. تماوجت الأشباح تركض حولي، تقترب وتبتعد، وتداخلت الصّور تتراقص غائمة، وتقطّعت الأصوات، يتخلّلها أزيز الرّصاص وهزيم الرّعد. ارتخيت ثانية على اﻹسفلت، فسرت برودته في خدّي وشعرت بخدر في أطرافي وأنا ملقى كجيفة كلب صدمته سيّارة ومضت دون التفات، عيناي مفتوحتان لكنّهما لا تبصران، فمي مفتوح ولساني ثقيل كالرّصاص! زخّ الماء من السّماء، يغمرني وينقر على وجهي وعينيّ، وبدأت السّيول تتجمّع وتسري بهدوء، تغسل بركة الدّم الّتي تجمّعت تحت صدري، والشّارع الفارغ من خطى الهاربين. فمي مفتوح يعبّ الماء وعيناي شاخصتان والرّوح تصعد رويدا رويدا، راح جسدي يبتعد عنّي رويدا رويدا، جاهدت كي أبقي عينيّ مفتوحتين، ثمّ بدأت السّتائر تنسدل حولي من كلّ الجهات الأربع، وانطفأت أضواء الشّوارع ببطء وفتور حتّى ذهب كلّ شيء واكتمل الغياب.
عندما رفعت رأسي، رأيت السّماء تنفتح، ويتدفّق منها نهر هائل من الضّياء، عناقيد تترقرق مثل العنب، تضيء كاليرقات الشّفيفة في ليل القرية، لا ليست القرية، ليست “عين البيّة” ولا أيّ مكان يشبهها. التفتّ حولي، فإذا هو اللاّمكان واللاّزمان، لا شيء تحتي ولا شيء فوقي، كأنّي فجأة خلق جديد بلا حواسّ. شعرت بشيء ثقيل يجذبني إلى الهاوية، وفجأة رأيت “عامر الصّالحي”، يطلّ عليّ بوجه ملء السّماء، وهو يرتدي العشب والسّواقي والمروج، وجه أخضر مطمئنّ هادئ كما لم أره في حياتي، مدّ إليّ يده يستحثّني إليه وهو يقول:
ـ ألم أقل لك! الحياة هنا أجمل بكثير، تعال انظر بنفسك! تعال ولا تخف!
تحاملت مجدّدا وأنا أحاذر أن تسقط بعض أشلائي، ومسحت بيدي على صدري، فلم أشعر بشيء، وبدأ التّراب يتساقط من جسدي مثل المطر الخفيف، بدأت أخفّ والتّراب يتساقط منّي غزيرا ويتكدّس تحتي بعيدا بعيدا في مكان مظلم لا أراه، وبدا لي كأنّي أسمع ما يشبه صوت النّواح، نواح شجيّ شفيف، كأنّه أغنيات أمّي وهي تربّت على كتفي كي أنام، وسمعت شيئا كأنّه الزّغاريد، تأتي مبحوحة من بعيد… ورحت أصعد رويدا رويدا رويدا، لكنّ قلبي ظلّ مشدودا إلى أسفل بأسلاك دامية شائكة… بي وجع لا يفارقني، يتشبّث بمفاصلي وعظامي كلّما صعدت أكثر…
سمعت الهاتف يرنّ مرّة أخرى، فهممت بأن أعود إلى الأرض من جديد، لكنّ الوقت كان قد فات، سقطت أطرافي ونبت لي جناحان من ماء ولم يبق في صدري سوى شهقة أخيرة بحجم السّماء واﻷرض، أدرت عينيّ إلى اللاّهناك! إلى البعيد البعيد حيث تركت قلبي يعوي… رأيت فدوى، وعامر، وقمر وأمّي وسناء… رأيتهم على عتبة الباب ينتظرون. وسمعت نقر خطوات بطيئة خلفي ترافقني كلّما صعدت، وفجأة توقّفت لحظات، وأخذت تبتعد متسارعة حتّى غابت.
لم أستطع النّزول، ولم أستطع الصّعود، ناديت على التّراب الّذي تساقط منّي فلم يلتفت، ورفعت عينيّ إلى “عامر الصّالحي”، كان لا يزال هناك ينتظرني على باب السّماء باسما فاتحا ذراعيه كأنّه لا يبالي بأيّ شيء… مدّ إليّ يده بحنوّ وقال:
ـ ها أنت ذا يا خالد! اقترب أكثر ولا تخف! انتهى كلّ شيء… ألم تكن تحلم بأن يصير الوطن جنّة؟
مددت يدي لآخر مرّة كأنّني أنتزعها من قلبي، فشدّ عليها برفق وسحبني وأنا أنظر إلى بيتي البعيد، وأغالب دمعة سقطت على الرّغم منّي على خدّ فدوى:
ـ أنا ما حلمت يوما بأن تكون هذه البلاد جنّة… كان يكفي فقط، أن لا تكون جحيما.

Exit mobile version