مفارقة مضاعفة في حرب روسيا-أوكرانيا
أبو يعرب المرزوقي
أعم مبدأ في استراتيجية الحروب حدده ابن خلدون بإضافتها إلى ميزان القوة بين المتحاربين:
فالأقوى يطلب المناجزة ويستعمل الذهاب بالهجوم إلى غايته أي النصر بالضربة القاضية
والأضعف يطلب المطاولة ويستعمل الكر والفر وغايته النصر بالنقاط المتراكمة.
المفارقان اللتان تميزان الحرب بين روسيا أوكرانيا لها مستويان يجعلانها تبدو شاذة عن هذا المنطق لأنها:
إذا اقتصرنا على روسيا وأوكرانيا تكون روسيا هي التي تطلب المناجزة وأوكرانيا المطاولة.
لكن إذا تعمقنا أكثر تكون الحرب بين روسيا والحلف الأطلسي فتنعكس العلاقة فيصح الحلف هو الذي يطلب المناجزة وروسيا المطاولة.
لكن ما أثبته العجز الروسي في الحسم السريع اضطره للمطاولة وما يسعى إليه الحلف أيضا يريد المطاولة. فتكون أمام مطاولتين رغم أن الحلف كان يمكن أن يطلب المناجزة فيحسمها بالضربة القاضية.
هنا نكتشف العلة التي تحول دون المناجزة وتفرض المطاولة على الأقوى في الحالتين:
فروسيا جربت المناجزة وفشلت وأدركت بعد قليل أن الحسم السريع مستحيل لما يتوفر لمن يبدو اضعف القدرة على المطاولة أي مساندة الحلف الأطلسي لأوكرانيا الذي يعكس توازن القوى فيجعله لصالح أوكرانيا.
والحلف يريد بكل الحيل الاستراتيجية تجنب المناجزة لئلا يدفع بروسيا إلى اللجوء إلى الحسم بآخر ما لديها من قوة إذا فقدت الأمل في الحسم الذي تأمله بالتهديم النسقي لأوكرانيا تجبنا لاستعمال السلاح النووي.
وإذن فالمطاولة الأمريكية ليست لعجز بل لتجنب الجنون الممكن لبوتين. فتكون المطاولة ذات تعليل نفسي هدفه استنهاض الشعب الروسي ضد بوتين حتى يصبح اعزل من العامل الأساسي في كل حرب: القبول الشعبي.
والدليل الحاسم عندي هو أن أمريكا مع مساعدتها لأوكرانيا تحول دونها وضرب الشعب الروسي في حين أنه لا يمكن للحرب أن تكون ذات مغزى إذا لم يكن التفاعل من نفس الطبيعة: فروسيا تهاجم الشعب الأوكراني وليس الجيش وحده والمفروض أن يكون الرد من جنسه.
منع أمريكا أوكرانيا من هذا الرد دليل على أن الاستراتيجيا هي ما وصفت: دفع الشعب الروسي للثورة على بوتين وعزله حتى في نظر الدولة العميقة وخاصة في الجيش الروسي الذي يعاني من طول الحرب وكلفتها البشرية فضلا عن الاقتصادية.
وإذن فيمكن القول أن أمريكا تستعمل استراتيجية سن تسو الصيني مع روسيا مع التدرج في استراتيجية كلاوسفيست وذلك هو الحل للمفارقتين أي إن القادر على المناجزة يتخلى عنها وتكل هي وضعية أمريكا الحالية بسبب نوع التسلح الرادع للعاجز دونها وتلك هي وضعية روسيا الحالية.
فتكون أوكرانيا مضطرة لتحمل كلفة المطاولة وكذلك روسيا التي لا يمكنها استعمال السلاح النووي إلا إذا وصلت إلى الهزيمة السريعة قبل أن يكون الشعب والدولة العميقة والجيش أن يصبح معارضا للحرب وحائلا دون الاستجابة لجنون بوتين الممكن.
لذلك فنظرية ابن خلدون تبقى صحيحة بشرطين:
الأول هي بحاجة إلى التطوير في ضوء ما يحدث للحرب من تقعيد في حالة وقوعها عند وجود سلاح رادع يمكن أن يتساوى في مفعوله التدميري كلا صفي الحرب.
الثاني هي بحاجة إلى التطوير في ضوء تجاوز حالة الحروب التي كانت عملا ليس للشعوب فيه دور يذكر لما كان الحكم لا يستمد شرعيته منها بل من حكام شرعيتهم من تسلطهم على شعوبهم.
والمشكل في حالة المطاولة هنا هي أن انهيار النظام الروسي لا يكفي فيه غضب الشعب لأن الشعب ليس هو مصدر سلطة بوتين. وحتى في حالة استمداد الحكام سلطتهم من الشعب فإن ذلك قد يطول كما حدث في فيتنام.
لكن في الحالتين غضب الشعب يفعل قبل الانهيار في الأنظمة الديموقراطية بسبب دوره في الشرعية في حين أن غضبه في الأنظمة الفاشية يحصل الانهيار عندما تنهار الدولة نفسها.
وهو ما أتوقعه لروسيا بمعنى أن بوتين حتى إذا جن فلن يستطيع استعمال السلاح النووي لأن الدولة العميقة لن تسمح له بذلك. ولعل المثال هو ما نراه الآن في إيران: وسيكون البديل شبيها بالشاهنشاهية.
فأمريكا لم تعد في عجلة من امرها في الاتفاق معها حول الملف النووي لأنها تتوقع دولة الملالي ستنهار قريبا وهي لا تريد إسقاط دولة ايران لحاجتها إلى التشيع ضد الاستئناف السني.
متى يقع الانهيار في النظام الفاشي؟ عندما يضطر للمطاولة أي عندما يصبح الصف المقابل الذي كان يطاول قادرا على المناجزة دون خوف سواء باقتصاره على ذاته أو بتدخل حليفه الذي كان ينتظر اللحظة لما يتأكد من أن الفاشي فقد نهائيا كل شعبية.
وهذا تحقق بعد في إيران لأن طلبها من روسيا مساعدتها حصلت لما خسرت المعركة السورية ولم تعد قادرة على المناجزة ولم تفده مطاولة حزب الله والمليشيات التي أتت بها من شيعة العالم.
الآن روسيا في هذه الوضعية: أتت بالمرتزقة من فاجنر ومن شيعة العالم كما احتاجت لأسلحة إيران التي يعلم الجميع أنها دون روسيا تقدما تقنيا. وهو الدليل على أن الصين لم تقبل مساعدتها: إذن روسيا على حافة الانهيار وبوتين لم يعد يستطيع استعمال السلاح النووي لأن الدولة العميقة والجيش لن يسمحا له بذلك.
لذلك فقد يصلح قريبا إخراج الجيش الروسي مما احتله على الأقل منذ بداية الحرب الأخيرة دون أن نصل إلى القرم. لكن إذا واصل ولم يسقط فستسقط روسيا وتتفكك لأني أتوقع حصول ثورة بين كل الجمهوريات القوقازية كما في أوكرانيا.
وتلك هي علة مصابرة أمريكا وعدم المساعدة في ذهاب أوكرانيا إلى المنازلة الشاملة فاكتفت بالقليل منها في بعض ما احتلته روسيا من جنوبها وشمالها. وقد تخرجها من كل أوكرانيا في بدايات الربيع المقبل باستثناء القرم.