نور الدين الغيلوفي
سيأتي اليوم الذي تصير فيه خبرا بعد أن كنت عينًا لا تملأ عينا،
فإذا صرت ماضيا وذهبتَ في خبر التاريخ فما الذي سيذكره الناس لك؟
الناس المُعاصروك لا يذكرون لك شيئا يحمدونك عليه بعد أن خبروك وعرفوا منك كلّ هذا الغثاء..
فكيف سيذكرك اللاحقون، إن هم ذكروك أصلا، أيّها السادر في غيّ سوّلت له فيه أوهامُه أنّ التاريخ يعبأ بالأدعياء كما لو أنّ التاريخ جوف فارغ يقنع بالجُفاء؟
بن علي ابتلعه ثقب النسيان الأسود بعد كلّ ذاك المجد والهيلمان ورغم تسخيره كلّ الدولة واحتكاره جميعَ مرافقها للدعاية ولصناعة مجد له، وكذلك يفعل كلّ من لم يقدّم لنفسه زرعا حسَنا يكون على قدره الحصاد.. حتّى إذا سقط القناع ودبّ الفساد إلى المساحيق كان النسيان أولى به.
هذا القادم من منطقة العدم السياسي والفراغ الفكريّ والتيه العقليّ وادّعاء ما لا طاقة له به من عقل وفكر وفهم، بدأ عهده
بالحنث باليمين
وخيانة الأمانة
وانتهاك العهود
وتمزيق المواثيق
وخداع الناخبين
لا يزال قسَمُهُ بين يدي البرلمان، ويدُه على المصحف ووجهه البِلا ملامح، كلّ ذلك تذكره الأعين والآذان،
ولكنّه لم يلبث أن حنث بالقسَم وهو يدّعي أنّه سيّد الأبرار وزعيم الصادقين،
وهدم البرلمان وهو يدّعي انّه راعي الدولة وصائن مؤسساتها،
وخدع الأعين والآذان وهو يظنّ أنّه قد احتال على العقول والأفهام واستوى له الاحتيال.
زعم أنّه صاحب فكر وبيان فكان أقلّ من فكرة وأهون من جملة مفيدة وأوهن من عبارة لا تفيد وأعجز من إصرار نملة على إيصال حبّة إلى ثقب لها بالأرض تدّخر فيه حياتها.
لم ير الناس منه غير عنوان يرون آثار نعمتهم عليه،
وقد شفط كلّ النعيم ليستأثر به وحده.
في عهده فقد الناس الماء حتّى خافوا على أنفسهم من العطش.
وشحّ الدقيق حتّى امتنع عن الناس رغيفُ الخبز،
وتبخّر الحليب حتّى أوشك الوالد أن يئد ولده وقد عسر عليه أن يجد ما به يطعمه،
واختفى الزيت حتّى استحال على الناس أدم طعامهم،
ونضب السكّر حتّى لم يجد الناس ما به يخفّفون من مرارة سلطته،
وارتفعت الأسعار كأنّها تنافس النيران لحرق جيوب الناس وإحراق بقيّة الأمل في الحياة الباقية لديهم.
وحتّى السماء حجبت غيمها وكفّت عن الأرض ماءها.
سيذكر التاريخ أنّه لم يلبّ للناس حدّ العيش الأدنى، ولكنّه بدل أن يعيَ حقيقة ما جرى أمعن في لعن طواحين ريح لم يكن يراها ولم يرها غيره، ولكنّه يتوهّم أنّه بلعنها يحتال على العقول فيستتبّ له الأمر وتسترخي الدولة ليجعل منها راحلته إلى أوهامه العجفاء.
لحظة من جنوح أصابت شعبا ظنّ أنّه أنجز ثورة حرية له وكرامة فكان أن عاد به صيدا لا يأمن به من خوف ولا يشبع به من جوع.
في بلاد العرب قدَرٌ ثقيل اسمه الحكم وعبء اثقل اسمه الحاكم.
دخلت تونس، بعد ثورة شعبية سلمية على طاغية من طغاة الدولة الوطنية، مرحلةَ انتقال إلى الديمقراطية.. كانت المرحلة ثقيلة لأنّها كانت مثقلة بدهور من الاستبداد والفساد والعسف. ثقلت المرحلة على الشعب المظلوم الذي تخلّت عنه “عصبيات” سياسية وثقافية ونقابية وماليّة وإعلامية يحلو لها أن تُسمّى نُخَبا، تخلّت تلك العصبيات عن الشعب لتخوض صراعات جوفاء تدبّرها رؤوس فارغة. وبينما الناس في حيرة وقلق تسلّل بينهم فرد من عوامّ الناس زيّنوه بمعانٍ زائفة وألقوا به في المعترك بين متنافسين على الحكم أضاعوا أرصدتهم الشعبية وجعل له مديروه ومدبّروه صوتا ورشّوه بماء وملح ليظهر في مظهر “النظيف”.
انتقمت تلك العصبيات من الشعب الذي أنجز ثورة.. لمّا فهمت أنّ ثورته إنّما كانت عليها استدرجت الدولة إلى نفق أشدّ ظلاما من ذاك النفق الذي كانت عليه قبل الثورة.. وذاك معنى الانتقام.
كيف ستزحزح الصخرة عن صدر الوطن؟
ومن أولى بإزاحتها؟
وجب الانتباه بعيدا عن لغة الخشب
من قداسة دولة الثلاثة آلاف سنة حضارة
والمنظّمات العريقة
وشاشية حشّاد
والمجتمع المدنيّ…
عناوين نفاق كبرى لوّثت التراب ونزفت الماء وأفسدت على الناس حياتهم.