أحمد الغيلوفي
لماذا نُقيمُ مؤتمرا للفرنكوفونية في تونس؟ في عالم يتكلم فيه 98% من سكانه لغات غير الفرنسية، وفي عالم تحتلُّ فيه فرنسا المرتبة قبل الأخيرة في إصدار الكتُب الجديدة، بعد تركيا وإسبانيا وإيران وباكستان واليابان وألمانيا والهند وروسيا والصين والولايات المتحدة… فلماذا الفرنكوفونية وماذا نفعل بها؟ وماذا تفعل بها إفريقيا؟
في المجالات العلمية، 4% فقط من البحوث العلمية ينشرها فرنسيون، فرنسا هي آخر دولة في الحصول على جوائز نوبل في الاقتصاد، بعيدا عن ألمانيا وعن إنجلترا، وتفصلها مسافة ضوئية عن الولايات المتحدة 96% من براءات الاختراع وقع إنتاجها بلغة غير فرنسية، 3% فقط من مستخدمي الإنترنت يستعملون اللغة الفرنسية. في مدارس التجارة الفرنسية 80% من المواد تُلقّن بالإنجليزية. اذا كانت البحوث العلمية الدقيقة وكذلك في البحوث الطبية في فرنسا هناك هيمنة ساحقة للغة الإنجليزية. وإذا كان أكثر من نصف الباحثين الفرنسيين لا يتكلمون بغير الإنجليزية، حسب “لوفيقارو”، واذا كانت اللغة الفرنسية لم تعد صالحة لا للتعليم ولا للبحث العلمي ولا للتواصل ولا للتجارة مع العالم، فلماذا تنفُخُ تونس الروح في جثة لغة هامدة؟
في أفريل 2014، وبطلب من فرانسوا هولاند، قام جاك أتالي بتقرير رسمي بعنوان “الفرنكوفونية والفراكفولية، مُحرّكات للتنمية المُستدامة”. واذا سألنا “تنمية مَن ومستدامة لمن؟” تُجيبنا الجملة الأولى من التقرير: “إن الإمكانيات الاقتصادية للفرنكوفونية عظيمة، وهي غير مُستغلّة بالشكل الكافي من طرف فرنسا”. يتمحور التقرير حول رؤية واحدة للفرنكوفونية: بوصفها فضاء في خدمة الرأسمال الفرنسي.
ينقسم الفصل الأول من التقرير إلى فكرتين أساسيتين:
- الفكرة الأولى هي أنّ “هناك نظرية اقتصادية للغات”،
- أما الفكرة الثانية فهي أن “اللغة الفرنسية ذراع اقتصادية فرنسية”.
تنطلق الفكرة الأولى من اعتبار اللغة قوة ناعمة يساهم انتشارها في زيادة الميزان التجاري للأمة التي تتكلمها، لذلك تكون الفضاءات التي تستعمل تلك اللغة مجالا حيوي للبضائع القادمة من المركز الذي يتكلم تلك اللغة. لذلك يعتبر التقرير أن صراع اللغات هو في الحقيقة صراع اقتصادي وتجاري. لذلك، يقول التقرير: “على فرنسا أن تضمن استعمال اللغة الفرنسية حتى تضمن دوما التنمية المستدامة” (ص2).
فيما يخص النقطة الثانية، يؤكد التقرير على الرابط المباشر بين حصة المؤسسات الاقتصادية الفرنسية في التصدير لبلد مُعيّن وعدد السكان المستعملين للغة الفرنسية في ذلك البلد. وهناك رابط آخر يكشف عنه التقرير: القانون المدني المستعمل في بلد ما يخدم المستثمرين الفرنسيين إذا كان مُستوحى من القانون المدني الفرنسي، لذلك يُحذّر التقرير من تنامي التشريعات المؤسسة على القوانين المحلية في إفريقيا. يقول التقرير “إن التعاقد اعتمادا على قوانين محلية إفريقية يهدّد الاستثمارات الفرنسية، في حين أن القوانين المستمدة من الفقه الفرنسي تسمح للمحامين الفرنسيين بضمان الأمن القانوني للمستثمرين الفرنسيين. إن القوانين المحلية لا تشجع الفرنسيين على الاستثمار في هذه البلدان” (ص60). ورغم أن المغرب وكندا عضوان في الفرنكوفونية إلا أن التقرير يحذر من أنهما أصبحا يشكلان خطرا على الشركات الفرنسية.
أخيرا، ينتهي التقرير حول الفرنكوفونية إلى مُعانقة الأطروحات العنصرية والاستعمارية لجول فيري. فاذا كان هذا الأخير قد قال مبررا الاستعمار الفرنسي لإفريقيا: “إن الأمم في وقتنا الراهن ليست قوية إلا بالتوسع الذي تقوم به. إن الأمم لا تكون قوية “بالإشعاع داخل المؤسسات”، “إشعاع” بلا توسع لا فائدة منه، إنه على أمتنا أن تقوم بما يقوم به الآخرون: التوسع نحو إفريقيا ونحو الشرق”، فإن تقرير “أتالي” يقول: “إن الفرانكوفونية تتأسس على شعور قوي بالهوية” (ص14).
كان المفكرون والفلاسفة الأفارقة الذين فككوا الخطاب الكولونيالي قد أشاروا إلى الوظيفة الاستعمارية للفرنكوفونية. وهذا ما كتبه اشايل مبايباي وألان مابانكو: “في الواقع، الفرنكوفونية، في أصلها هي المرادف اللغوي لسلطة السيف. إنها جهاز إيديولوجي للإمبريالية الفرنسية، إنها تريد فرض اللغة الاستعمارية على شعوب وقع إخضاعها بقوة الجيش”. أما أستاذ الأدب المقارن بجامعة البينين اوسيتو ميديهون فيقول ساخرا: “إذا كانت فرنسا قد اكتشفت بمرارة أن بعض الأمم قد افتكّت منها المراتب الأولى في العالم، وقررت أن تُحارب لاستعادة هيبتها، فهل ذلك أمر يعني الأفارقة؟ أن نُصفّق للغة موليير وفولتير لمواجهة اللغة الإنجليزية، هل هذا سوف يُطور من طاقاتنا؟.
الفرنكوفونية، مثلها مثل “الفرنك الإفريقي”، أسلحة فرنسية لاستعمار إفريقيا، أسلحة عوّضت الجيوش والطائرات والدبابات. ماذا ربحت البينين وبوركينا فاسو (عدا اغتيال توماس انكارا) و بورندي (أفقر البلدان في العالم) وجزر القمر (عدا عبث بوب ديانار بها) وجيبوتي وغينيا (أفقر بلد في إفريقيا) ومالي والنيجر وإفريقيا الوسطى (عدا سرقة فرنسا للماس والذهب والأورانيوم) وراوندا (عدا مساهمة فرنسا في قتل أكثر من مليونين من سكانها) وتشاد.. ماذا ربح هؤلاء من الفرنكوفونية ومن الفرنك الإفريقي؟
ماذا يعني أن يطلب وزير التربية الفرنسي من تلاميذهم وطلبتهم إتقان اللغة الإنجليزية حتى “يستطيعون العيش في القرن 21” ونُقيمُ نحن مؤتمرا للفرنكوفونية؟
ماذا يعني أن تُدَرّسَ 80% من المواد في التجارة بالكليات الفرنسية بالإنجليزية ونُقيمُ نحن مؤتمرا للفركوفونية؟
يعني أننا نجعل من انفسنا عاطلين وجِياعا وأُمّيين في القرن 21 ولا نملك غير الارتماء في البحر لنعمل كيد عاملة رخيصة في أوروبا، يعني أننا نُضحّي بمستقبل أبناءنا ونقدّم خدمة “ببلاش” للغة دولة آفلة، عوض تأهيل انفسنا لعالم تُنتَجُ فيه 96% من براءات الاختيار بلغات غير الفرنسية. يعني أن من حكمنا طيلة عقود حتى الآن يُضحّي بنا وبالأجيال القادمة حتى يبقى في الحكم ويُرضي فرنسا. متى يتخلّص حُكّام تونس من العَقد الكولونيالي الذي أمضاه الباي بباردو : “الخُضوع مقابل الحُكم”؟ متى يموت محمد الصادق باي؟