القاضي أحمد الرحموني
ولا ادري إن كان قيس سعيد يرغب من وراء إخراج ذلك “الموقف” أن يؤكد للشعب (المجسد في شخصه) انه يدير كل شيء (خصوصا بعد المظاهرة المليونية!) وان ما بقي من سلطات الدولة (وهو القضاء) ليس بعيدا عن مرمى صواريخه؟!
أم انه كان يهدف إلى ترسيخ صورة القضاء “المستضعف”، مظنة الرشوة والفساد (إلا قلة شريفة!) وذلك استكمالا لتصوراته عن السرطان الذي ينخر جسم الدولة؟!
أم انه كان يرمي مع ذلك إلى ترويع الجميع وخصوصا القضاة حين يرفع شعار تطهير البلاد وتطهير القضاء؟! باعتبار أن ذلك هو اقصر الطرق وأنجعها لإخضاع القضاء واستعماله!
ومهما كانت الأفكار التي جالت بخاطره، فإن جميع تلك “النوايا” ليست في آخر المطاف من جملة ما يفيده أو ينفعه أو يصلح من شأن القضاء؟!
كما يبدو أن الخطاب المباشر على منوال ذلك اللقاء (في مواجهة أشخاص لا ينطقون ولا يناقشون!) لا يمكن أن يحمله الملاحظ إلا على محمل التقريع أو التأديب أو حتى الازدراء وهو في كل الأحوال خطاب لا يليق أن يوجه لاحد مكونات سلطة الدولة (السلطة القضائية)، على افتراض وجودها أو ضرورة احترامها.!
وحتى إذا تجاوزنا ذلك، فإن اصل الخطاب المتعلق بتطهير القضاء (طبق مضمونه المرتبط بالعدالة الانتقالية) هو من صميم الصلاحيات المنوطة بهيئات مستقلة وبسعي من السلطة التنفيذية التي يجب أن تستند في ذلك إلى تشاريع وضمانات، وهو ما يعني أن المجالس العليا للقضاء والهيئات القضائية والهياكل الممثلة للقضاة ليست معنية مباشرة بتنفيذ إجراءات ما يعرف بالتطهير (أو الإصلاح المؤسسي)، الذي كان من اختصاص هيئة الحقيقة والكرامة (لجنة الفحص الوظيفي وإصلاح المؤسسات) طبق القانون الأساسي المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها الصادر في 24 ديسمبر 2013.
وللعلم، فإن تلك اللجنة كان لها طبق القانون أن تصدر توصيات للجهات المختصة بالإعفاء أو الإقالة أو الإحالة على التقاعد الوجوبي في حق كل شخص يشغل إحدى الوظائف العليا بالدولة بما في ذلك الوظائف القضائية اذا ثبتت مسؤوليته عن جملة من الانتهاكات المحددة (الفصل 43 من قانون العدالة الانتقالية).
وعلى ذلك لم يكن بيد القضاة -حتى قبل إرساء العدالة الانتقالية وفي الأيام الأولى التي أعقبت الثورة- إلا النزول إلى الشوارع لمطالبة السلطة بإصلاح القضاء (في أشخاصه ومؤسساته!). ولم ينقطع “حراك القضاء” على مختلف مشاربه وفي كل المحطات عن تأكيد المطالبة بإرساء سلطة قضائية مستقلة ونزيهة تحظى بثقة الناس واحترام بقية السلطات.
ولذلك لم تكن بيد رئيس المجلس الأعلى للقضاء “مفاتيح الإصلاح” ولا “سر التطهير” حتى يصرخ في وجهه رئيس الدولة.
كما لم يكن له (وهو الماثل أمام صاحب جميع السلطات.!) أن يذكر بان ما نعيشه من غياب السلطات العامة الثلاث وتركيزها في يد واحدة والإخلال بمبدإ الفصل بين السلطات والتوازن بينها والتدخل في تنظيم العدالة بمراسيم رئاسية ووضع القضاة بالإقامة الجبرية ومنعهم من السفر وترويعهم في كل مناسبة لم يترك من تلك السلطة شيئا إلا الحديث في أركان المحاكم.!
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.