القاضي أحمد الرحموني
لا مجال للشك أن خطة قيس سعيد للانقلاب على الدولة في أسسها وتوجهاتها وهياكلها قد توضحت “لكل ذي قلب سليم” مع صدور الوثيقة الجديدة بمقتضى الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 المؤرخ في 22 سبتمبر 2021 والمتعلق بتدابير استثنائية (الرائد الرسمي بتاريخ 22 سبتمبر 2021 عدد 86) الذي كان مسبوقا ببلاغ إعلاني في نفس التاريخ يتضمن الإشارة إلى النقاط الأساسية.
وقد اختار قيس سعيد قبل يومين، وفي خطاب هجومي ضد معارضيه من مدينة سيدي بوزيد، التبشير بملامح مشروعه بعد انتظار طويل.!
وفي هذا السياق “الغريب”، غير المسبوق في تاريخ البلاد تتجاذبنا -ونحن نتأمل في مضمون هذه الوثيقة- مرجعية (خلناها قبرت) لدستور “الاستبداد” الصادر في 1 جوان 1959 الذي مكن الحبيب بورقيبة من رئاسة الجمهورية مدى الحياة ومناشدة زين العابدين بن علي للترشح لولاية سادسة، وذلك في مواجهة مرجعية جديدة لدستور “الثورة” الصادر في 27 جانفي 2014 الذي تمت صياغته في إطار التأسيس “لنظام جمهوري ديمقراطي تشاركي في إطار دولة مدنية، السيادة فيها للشعب”.
وتبرز المفارقة في مشروع قيس سعيد (بدستوره الصغير) الذي حاول إحياء دستور 1 جوان 1959 في إطار أحكام استثنائية استنادا للفصل 80 من دستور “الثورة”.
وحقيقة يمثل الأمر الرئاسي عدد 117 صياغة “تلفيقية” لا تنبئ عن أي مجهود، توصلت إلى تركيب (وحتى سلخ) نصوص متناثرة من الأبواب الخاصة بالسلطتين التشريعية والتنفيذية من دستوري 1959 و 2014 ضمن رؤية استبدادية “شعبوية” هدفها الأساسي تركيز السلطات الأساسية بيد رئيس الجمهورية.
وعلى منوال ما يرد بخطابات قيس سعيد، يكشف الأمر الرئاسي في توطئته أسباب إعلان التدابير الاستثنائية التي من بينها أن الشعب قد تعذر عليه “التعبير عن إرادته وممارسة سيادته والتعبير عنها في ظل الأحكام الدستورية السارية” إضافة إلى أن الشعب التونسي قد عبر “في أكثر من مناسبة عن رفضه للآليات المتعلقة بممارسة السيادة وطرق التعبير عنها” وهي في جملتها استنتاجات تبريرية ذات صبغة سياسية، فضلا عن أنها محل تنازع بين فئات الشعب التونسي.
وعلى امتداد أربعة أبواب مختصرة (23 فصلا) خصص البابان الأول والأخير إلى الأحكام العامة والختامية وتعلق الباب الثاني بالتدابير الخاصة بممارسة السلطة التشريعية والباب الثالث بالتدابير الخاصة بممارسة السلطة التنفيذية (رئيس الجمهورية والحكومة).
فماذا أنتج مشروع قيس سعيد بعد تفكير طويل؟
يمكن أن نلاحظ من خلال البناء غير المتوازن لسلطة غير شرعية عددا من الفظاعات القانونية:
أولا: التغطية على مسميات حقيقية بأساليب “ملتوية” أو استعارات غير دقيقة، من ذلك:
- الإحالة على الدستور الساري المفعول في حين انه وقع فعليا تعليقه (كلا او جزءا) بحكم تجزئته وإلغاء بعض مقتضياته والتحايل على أحكامه. ويتبين ذلك خصوصا:
• من تواصل “العمل بتوطئة الدستور وبالبابين الأول والثاني منه وبجميع الأحكام الدستورية التي لا تتعارض مع أحكام هذا الأمر الرئاسي” (الفصل 20)، وهو ما يدعو إلى الارتياب في موضوع الدستور ومادته ويجعل من النص الاستثنائي نصا أصليا على خلاف المعتاد.
وفي هذا السياق، نتساءل: ماذا عن الأبواب الستة الأخيرة ومنها الباب الخامس المتعلق بالسلطة القضائية الذي اغفل الأمر عدد 117 الإشارة إليه رغم أهميته في حماية الحقوق والحريات؟!
• من إدراج الأساليب العامة لتطبيق الدستور وتنظيم الهيئات الدستورية ضمن النصوص المشمولة بالمراسيم (الفصل 5) - التنصيص عل تعليق اختصاصات مجلس نواب الشعب (الفصل 1) في حين الأمر يتعلق بحل فعلي لذلك المجلس خصوصا بعد التمديد في ذلك دون أجل معين. مع الإشارة إلى أن الفصل80 من الدستور الحالي الذي اتخذ ذريعة لكل هذه الإجراءات يمنع على رئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب.
- التنصيص على رفع الحصانة البرلمانية عن جميع أعضاء مجلس نواب الشعب (الفصل 1) وهو ما لا يتيحه القانون لرئيس الجمهورية في حين ان الامر قد آل إلى عزل جماعي فعلي بحكم حل مجلس نواب الشعب وعدم تقييد الإجراءات الخاصة بهذا المجلس بأي شكل من الأشكال.
- التنصيص على اختصاصات موكولة لرئيس حكومة (الفصل 16 وما بعده) في حين أن موضوعها لا يرقى إلى اختصاصات وزير أول كما سنرى.
- تغيير مسمى ثورة 17 ديسمبر 2010 – 14جانفي 2011، باسم ثورة 17 ديسمبر 2010 الذي اختاره لها قيس سعيد رغم المحافظة على توطئة الدستور من جملة الأجزاء الباقية.!
ثانيا. إقرار أحكام استثنائية غير مقيدة وغير خاضعة للرقابة وهو ما يؤدي بالضرورة إلى التعسف في استعمال السلطة، من ذلك تحصين المراسيم (بمثابة القوانين) الصادرة عن رئيس الجمهورية ضد الطعن بالإلغاء (الفصل 7) إضافة إلى إلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة مشاريع القوانين (الفصل 21) التي يرأسها الرئيس الأول لمحكمة التعقيب وتمارس رقابتها على أعمال مجلس نواب الشعب (الفصل 148 من الدستور).
ثالثا. وراثة اختصاصات مجلس نواب الشعب ورئاسة الحكومة من قبل رئيس الجمهورية وتعويض مداولة الجلسات العامة بالتداول في مجلس الوزراء المرتبط بالرئيس (الفصل 6).
وينص الأمر عدد 117 على ممارسة التشريع بمقتضى المراسيم والأوامر الرئاسية مما يبرز “استيلاء” رئيس الجمهورية في آن واحد على كافة اختصاصات المجلس النيابي المتعلقة بإصدار القوانين الأساسية والقوانين واختصاصات رئيس الحكومة الذي يمارس طبق الدستور الحالي السلطة الترتيبية العامة ويصدر الأوامر الفردية التي يمضيها بعد مداولة مجلس الوزراء (الفصل 94 من الدستور).
وينص الأمر عدد 117 على أن المواد التي لا تدخل في مجال القوانين الأساسية والقوانين تصدر في شكل أوامر رئاسية (الفصل5).
رابعا. تغيير النظام السياسي على صورة النموذج الوارد بدستور 1 جوان 1959 وتركيز جميع السلطات التشريعية والسلطات التنفيذية الأساسية بين يدي رئيس الجمهورية.
فإضافة لممارسة رئيس الجمهورية للسلطة الترتيبية العامة، ينقل الأمر عدد 117 ما ورد بشأن ممارسة السلطة التنفيذية بدستور 1959 من ذلك :
- التنصيص على أن رئيس الجمهورية يمارس السلطة التنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة (الفصل 8) في حين نص الفصل 37 من دستور 1959 على ممارستها بواسطة وزير أول رغم أن اختصاصاته تبدو أوسع من رئيس الحكومة المنتظر.
- التنصيص على أن رئيس الجمهورية يضبط السياسة العامة للدولة واختياراتها الأساسية (الفصل 9) وهو ما يطابق أحكام الفصل 49 من دستور 1959، في حين تقتصر اختصاصات الرئيس في دستور 2014 على ضبط السياسات العامة في مجالات محصورة (الفصل 77).
- التنصيص على أن رئيس الجمهورية يرأس مجلس الوزراء وينوبه عند الاقتضاء رئيس الحكومة (الفصل 10) وهو ما كان يأخذ به دستور 1959 في هذا الشأن (الفصلان 50 و60).
خامسا. توسيع وظائف واختصاصات رئيس الجمهورية لتستوعب الاختصاصات الموكولة لرئيس الحكومة في دستور 2014 ، مع ملاحظة حذف مداولة مجلس الوزراء بالنسبة لبعض الاختصاصات المذكورة.
ومن أمثلة الاختصاصات المحالة:
- إشهار الحرب وإبرام السلم بعد مداولة مجلس الوزراء (الفصل 12).
في حين يشترط الفصل 48 من دستور 1959 موافقة مجلس النواب والفصل 77 من الدستور الحالي موافقة مجلس نواب الشعب بأغلبية ثلاثة أخماس أعضائه. - إحداث وتعديل وحذف الوزارات وكتابات الدولة وضبط اختصاصاتها وصلاحياتها (الفصل 12 وهو ما يطابق الفصل 92 من الدستور الحالي).
- إحداث أو تعديل أو حذف المؤسسات العمومية والمصالح الإدارية وضبط اختصاصاتها وصلاحياتها (الفصل 12 وهو ما يطابق الفصل 92 من الدستور الحالي).
- إقالة عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة أو البت في استقالته. (الفصل 12 من الأمر عدد 117 – الفصل 92 من الدستور الحالي).
- التعيين والإعفاء في جميع الوظائف العليا (الفصل 12) بينما ينص الفصل 78 من الدستور الحالي على اقتصار نظره في هذا على الوظائف العليا برئاسة الجمهورية والمؤسسات التابعة لها.
سادسا. إرساء حكومة صورية، منزوعة الصلاحيات وتحت هيمنة رئيس الجمهورية. ويظهر ذلك أساسا:
- من الفصل 16 من الأمر عدد 117 الذي اقتضى أن الحكومة تتكون من رئيس وزراء وكتاب دولة يعينهم رئيس الجمهورية، في حين ينص الفصل 50 من دستور 1959 على تعيين أعضاء الحكومة باقتراح من الوزير الأول.
- من الفصل 17 من نفس الأمر، المطابق للفصل 58 من دستور 1959، والذي يقتضي أن الحكومة تسهر على تنفيذ السياسة العامة للدولة طبق التوجيهات والاختيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية.
- من الفصل 18 من الأمر المذكور الذي ينص على أن الحكومة مسؤولة عن تصرفها لدى رئيس الجمهورية. وهو ما يتطابق نصا ومحتوى مع الفصل 59 من دستور 1959.
- من الفصل 19 من الأمر عدد 117 الذي ينص على أن رئيس الحكومة يسير الحكومة وينسق أعمالها ويتصرف في دواليب الإدارة لتنفيذ التوجهات والاختيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية.
سابعا. الإعداد لتغيير النظام السياسي والانتخابي وذلك من خلال الوسائل التالية:
- الاستفتاء، حيث ينص الفصل 15 من الأمر عدد 117 أن “لرئيس الجمهورية أن يعرض على الاستفتاء أي مشروع مرسوم، وإذا ما افضى الاستفتاء إلى المصادقة على المشروع، فإن رئيس الجمهورية يصدره في اجل لا يتجاوز خمسة عشرة يوما من تاريخ الإعلان عن نتائج الاستفتاء”.
ومن الملاحظ أن هذه المقتضيات قد رفعت كل الحواجز والضمانات لممارسة الاستفتاء المباشر قياسا بالضوابط الواردة بالدستور الحالي. كما يشار إلى أن أحكام الفصل 47 من دستور 1959 التي تمثل مصدرا مباشرا للفصل 15 المذكور قد اشترطت أن لا يكون موضوع الاستفتاء مخالفا للدستور وهو ما تم إسقاطه من الأمر الرئاسي عدد 117، مما يفتح الباب واسعا لإصدار مراسيم مخالفة للدستور سواء لتغيير النظام السياسي أو الانتخابي خصوصا في غياب أي شكل من أشكال الرقابة الدستورية.! - تولي رئيس الجمهورية بنفسه إعداد مشاريع التعديلات المتعلقة بالإصلاحات السياسية وذلك بالاستعانة بلجنة يتم تنظيمها بأمر رئاسي.
ويورد الفصل 22 من الأمر عدد 177 انه من الضروري أن تهدف تلك المشاريع إلى التأسيس (كذا) لنظام ديمقراطي حقيقي(!) ذي خصائص تبدو فضفاضة (سيادة الشعب، الفصل بين السلط، دولة القانون، ضمان الحريات، تحقيق أهداف الثورة.)
وهي قيود لا يمكن الوقوف على مدى احترامها في ظل الأحكام الاستثنائية والحكم المطلق والخيارات الانفرادية.