لنتفق على شيء، في سياق ما نعيشه من وضع استثنائي، مثلما لا يمكن بسهولة إخفاء أية شاردة (خاصة مع وجود إعلام الفايسبوك)، فإن كل الوقائع تقريبا لا يمكن أن تصل لآخر متلق في حجمها الأصلي أو الطبيعي.! ومع ذلك (وبعد إسقاط بعض التفاصيل المتناقضة) فإن واقعة التهريب للعملة الصعبة التي تورطت فيها إحدى القاضيات (مهما كانت دوافعها) تبدو على حسب البيانات الرسمية (الصادرة عن محكمة المنستير والديوانة ومجلس القضاء العدلي) ثابتة في حقها إلى حين إقرار ذلك طبق الإجراءات القانونية.!
وفي انتظار محاسبتها (جزائيا وتأديبيا)، رأى مجلس القضاء العدلي رفع حصانتها القضائية وإيقافها عن العمل. لكن هل ينتهي الموضوع إلى هذا الحد؟ وما على القضاة إلا أن ينحنوا أمام الريح حتى تمر العاصفة؟!
هكذا يرى بعضنا الموضوع في صورة مواجهة بين القضاة وسائر الناس. وهكذا يخلط الناس بين الشخص والوظيفة، وكان علينا أن نتساءل هل كان من الضروري أن نعلن في كل مرة صفة من يقوم بالتهريب ونغفل اسمه ولقبه؟.
ومهما كان، لا أجد شخصيا حرجا في الحديث عن تلك الواقعة، خصوصا بعد أن أصبح تداول الأسماء القضائية من الظواهر المعتادة (الطيب راشد، البشير العكرمي…) لكن بالأساس لان تلك الواقعة لم تكتسب أهميتها (وحتى خطورتها) إلا بنسبتها إلى أحد القضاة. وهو ما يحول الموضوع إلى شأن عام قضائي يهم فساد القضاء (وهو واقع لم ينكره احد) فضلا عن الأخلاقيات القضائية.!
وربما لا يعلم الناس أن الجدل لم ينقطع في أوساط القضاة إزاء هذه الموضوعات سواء بمناسبة أو بغير مناسبة وعلى حسب تنوع التركيبة الفكرية للقضاة وتوجهاتهم.
وحتى لا نبتعد كثيرا عن الموضوع، أرى أن مواقف القضاة بالنسبة لتلك الوقائع الشخصية المتداولة لا تخرج عن ثلاثة أصناف :
أولا. موقف القضاة الذين يفضلون الصمت لأنهم يعتقدون أن الخوض في السلوكيات الفردية لبعض القضاة هو خوض في “عرض القضاء” ومن شأن ذلك المس من شرف القضاء والتقليل من هيبته (وكما قال المتنبئ : لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى * حتى يراق على جنباته الدم!).
ومن الواضح أن هذا الموقف يصدر عن اعتقاد أن المس في شخص القاضي هو تجريح وان ذلك ينسحب على كافة القضاة حتى وان لم يكونوا طرفا في الواقعة!.
وقد يتطور هذا الموقف إلى حد الدفاع عن الشخص أو التماس الأعذار الواهية تحت تأثير “الماسونية القطاعية”!
ثانيا. موقف القضاة الذين يعتبرون (حتى علانية) أن الانحراف السلوكي للقاضي هو ظاهرة غير طبيعية بالنظر إلى مثال “القاضي الأمين الشريف” وان ردود الأفعال يجب أن تكون في مستوى “الأخطاء التأديبية” فضلا عما يستوجبه الأمر من تطبيق للآليات القانونية بكل شدة وصرامة.!
ويعتبر هؤلاء القضاة -ضمنيا- أن المعالجة يجب أن تكون فردية وردعية حتى أن اضطررنا إلى قطع العضو حتى يسلم الجسم.!
ثالثا. موقف القضاة الذين يعتبرون أن مثيل هذه السلوكيات (على فداحتها) هي من جملة الظواهر الطبيعية التي تولدها شروط موضوعية لا ترتبط فقط بالقضاء بل تسري على كل مؤسسات الدولة. ولذلك فإن بروز ظواهر الفساد (التدخل في الإجراءات القضائية، الرشوة الخ…) لا تقتضي فقط معالجة فردية عبر تطبيق الآليات القانونية (المحاسبة، العقاب) بل تستوجب إخضاع المؤسسة القضائية (كغيرها من مؤسسات الدولة) إلى معايير دولة القانون من خلال عملية إصلاحية عميقة تهم في آن واحد الأشخاص (قضاة، مساعدو قضاء..) والهياكل (المحاكم، المجالس القضائية، الوظائف القضائية…).
وان الموقف الأخير -الذي اتبناه- يعتبر إضافة لذلك أن عملية الإصلاح العميقة (سواء للأشخاص أو الهياكل) لم تتم، وفي احسن الأحوال كانت عملية جزئية غير مكتملة.
فرغم أن القضاء بعد الثورة اصبح اكثر خضوعا للرقابة العامة (المجتمع، الصحافة…) إضافة إلى أن القضاة التونسيين كانوا في طليعة من طالب بإخضاع المنظومة القضائية للإصلاح (وحتى للتطهير بمعناه المكرس في العدالة الانتقالية) إلا أن المؤسسة القضائية لم تخضع إلى الآن إلى عملية إصلاح منهجية وان السياسيين (أصحاب المبادرات التشريعية) وكذلك المتدخلون في مسار العدالة الانتقالية وبدرجة ربما اقل القضاة أنفسهم قد فوتوا على البلاد فرص الإصلاح المتعلقة بالمنظومة القضائية.
ومن الطبيعي أن يجد القضاء نفسه طبق هذه المعطيات في مواجهة تلك الظواهر السلوكية.
فكيف للقضاء أن يكرس قيمه في غياب مدونة سلوك مشتركة وفي غياب التأكيد على خطاب النزاهة والمسؤولية بالتوازي مع خطاب الاستقلالية.!؟
وكيف للقضاء أن يرسخ في ضمائر القضاة حقوقهم وواجباتهم في ظل قانون أساسي (على الأقل بالنسبة للقضاة العدليين) صدر منذ أكثر من نصف قرن؟!
وكيف للقضاء أن يؤسس للمسؤولية القضائية اعتمادا على مجلس أعلى للقضاء فاقد لصلاحياته الدستورية، تشقه الخلافات وتتنازعه المصالح وتتقاذفه المنافع؟!
وكيف للقضاء أن يفرض احترامه وكرامته تحت ضغط الشارع وفي ظل ابتزاز الأحزاب وازدراء السياسيين؟!